الأحد: 27 أبريل 2025م - العدد رقم 2533
Adsense
قصص وروايات

أفعال لا تُنسى .. حكاية حب وفرح

صموئيل نبيل أديب

مستشار اعلامي

تـبهـرني دائماً تـلك النفوس التي تتذكر المنتقلين بالـرغم من مـرور السـنوات، أنا الـذي أنسى ماذا أكلت في الصـباح من كثرة ضغـوطـات الحياة.. أتساءل كيف تستطيع ذاكـرة شخـص أن تتذكر ملامح وأحداث وتفاصيل المنتقلين منذ ٤٠ عاماً مثلا،

ما هذه الذاكرة الفولاذية التي لديهم؟!

ولكني اكتشفت أنه الحـب.. نحن نتذكر من نحبـهم حتى لو ضرب الزهـايـمر ذاكرتنا.. يبقى القلب مشتعلاً بهم حتى لو بهـتت صـورتهم واختفى الصـوت من الذاكرة..

أفعالهم هي التي حفـرت حبهم في قلوبنا وهي التي تـُذكرنا بِهم، نحن ربما ننسى الوشوش ولكننا لا ننسـى الفعـل.. كما لا تنسى الطفلة حضن والدها، و لا تنسى فرحته بنجـاحها…

أبو عماد.. صغيراً كطفل في التاسعة من عمره كل ما أعرفه وقتها أنه زوج ابنة عمة والدي.. جسمه رفيع ووجهه نحيل مع شنب خطه بياض الشعر وصوت هادئ لا تسمعه أحيانا، واليوم فرح إحدى بناته حيث أرسلني والدي إلى بيته للمساعدة في تجهيزات الفرح صباح ليلة الزفاف.. بيتهـم المكون من طابقين كان ملئ بالناس ولكن في الطابق الثاني كانت توجد العروس مع أختها التي تقيس فستان الزفاف الذي اشترته منذ يومان، ولكني سمعتها تبكي..!!

“خير فيه إيه.. مالك؟ “.. يقولها أبو عماد وهو يصعد السلالم جرياً إلى غرفة ابنته.. تخبره أختها أن الفستان لا يعجبها بسبب خطأ فيه.. وأنها كانت تريد أن تشـتري الفستان الآخر من مدينة “قنا”..

 ولكن “قنا” على مسافة ساعة ونصف ذهاباً ومثلها إياباً.. الفرح الساعة ٧ مساء والآن الساعة 12 ظهرا.. تكلفة الفستان في ذلك الوقت 500 جنيه وهو مبلغ كبير جداً في أوائل التسعينات.. يعادل مرتب شهور لموظف مثل أبو عماد.. كان الموضوع كله غير منطقي وصعب جداً وسط ضغوطات يوم الزفاف وحضور المعازيم والمشاكل التي يحملها الآباء فوق أكتافهم..

 ولكني أتذكر موقف أبو عماد جيدا.. حضن ابنته قائلا (وأيه يعني.. أجيبلك اللي أنتي عيزاها.. أروح أجيب لك الفستان وأجي علشان تبقي أجمل عروسه النهارده.. فيه عروسه تبكي يوم فرحها؟.. اهدي اهدي)..

كان صوتها هادئاً مُحبا.. متفهماً لضغوطات اليوم على نفسية ابنته.. كان يتحدث كما لو لم يكن عليه هو نفسه ضغوطات مضاعفة، كما لو كان العالم كله قد توقف عن الدوران وأن دموع ابنته هي الأهم عنده من مئات المعازيم المنتظرين بالأسفل ومن مجهود ثلاث ساعات سفر..

 هل أشتري لها الفستان فعلا؟ لا أعرف فقد عدت إلى منزلي وتركته يحتضن ابنته.. ولكن بقي الموقف في ذاكرتي إلى الآن بعد ثلاثون عاما… لا زلت أتذكر هدوءه ونبرة صوته وسلامه الملائكي والأهم نظرات حُبه إلى بناته..

نعم، قد تتلاشى الصور من الذاكرة ولكن الأفعال هي من تجعلنا نتذكر الآخرين حتى لو بعد مائة سنة.. الأفعال هي من تملك قلوبنا وتجعل عيوننا تبكي على فراقهم نهاراً وليلا.. حيث الحب الذي لا ينسى.

 

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights