الفرسان يعتمرون

أيهم بن مصطفى الخياري
في ليلة من ليالي شهر شعبان المضيئة بنور الإيمان وضياء الإسلام، اجتمع شعلة من شباب القرآن وحملة من خير رجال الأمة الإسلامية، يودعون أهلهم وأحباءهم، ويحملون زاد سفرهم إلى الحافلات التي سوف تكون منزلاً لهم جميعاً خلال بضعة أيام القادمة.
في الأول من شعبان ١٤٤٦ه، انطلقت ثلاث حافلات تقل مجموعة من الشباب النابغين من ولاية العامرات في سلطنة عمان متوجهةً إلى أطهر بقاع الكرة الأرضية وأجملها (مكة المكرمة) قاصدين في ذلك تأدية مناسك العمرة وطلب العلم والمعرفة، في حملة عرفت باللقب السامي “فرسان الهداية”، مبتغين في ذلك وجه الله عز وجل، الذي تُشد لأجله أشق الرحال، وتقطع في وجهه أطول السهول والتلال.
على الرغم من طول الطريق ومشقته، وكآبة المنظر ومهابته، فإن الفرسان الشجعان كانوا في درة نشاطهم وحماسهم، وظلوا على حسن أحوالهم وأهوائهم، وكأن ذلك الدرب المهيب الذي تعدى اليوم من الزمان وألف كيلومترٍ من بعد المكان، لم يسلب منهم أي طاقة وعزم على بلوغ وجهتهم البعيدة، فتراهم ينشدون أروع الأناشيد الدينية تارةً، ويقرؤون ما تيسر من آي القرآن الكريم تارةً أخرى، وكانوا قليلا ما ينامون، وبالأسحار هم يستغفرون، وبأطيب الألحان كانوا يهتفون: “تائبون آيبون ، وإلى الله راجعون”…
وبعد مشوار طويل جدا، استمرّ حوالي يوم ونصف، وبعد العديد من التوقفات والاستراحات من أجل الصلاة وتناول الطعام، وصل الفرسان إلى ميقات السيل الكبير (المعروف بقرن المنازل)، حيث قاموا بتأدية أول مناسك العمرة، وهو الإحرام.
بعد أن قام الفرسان بالاغتسال وارتداء لباس الإحرام كما تعلموا من مشرفي الحملة، طفقت الحافلات الثلاث معا في طريقها إلى الحرم المكي بمشاعر روحانية وإيمانية ملؤها الشوق وفراغ الصبر لمقابلة بيت الله الأعظم، الكعبة المشرفة، وهم يلبون معا بصوت واحد متجانس: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك”.
كان ذلك في ظهيرة يوم الأحد، عندما وصلنا إلى حدود الحرم المكي الشريف، وقطعنا التلبية، وهممنا للنزول من الحافلات والتفرق إلى مجموعات تم تقسيمها سابقا، بحيث يكون لكل مجموعة مشرف مسؤول عن جميع الفرسان في تلك المجموعة.
وبما أن صلاة الظهر كانت قد حانت آنذاك في مكة المكرمة، صلّت كل مجموعة من الفرسان صلاة الظهر جماعة في الحرم، قبل التوجه لأداء أهم مناسك العمرة، وهو الطواف.
يا لها من لحظات… فبعد شوق كبير، وفراق طويل، ها نحن الفرسان نرى الكعبة المشرفة بعظمتها وهيبتها أمام أم أعيننا يتوسط ذلك المسجد الهائل، تتطوف حولها حشود متفرقة من البشر لا يجمعهم إلا إيمانهم بالله تعالى، وهو أمر يبعث في النفس شعورا فريدا من نوعه، مختلفا تماما عن رؤيتها في الشاشات على غير وجه الواقع. هذه اللحظات التي لا ينساها أي معتمر خلال عمرته، وتبقى مخلدة في ذهنه من جلالها وحجم موقفها، وبالفعل، طاف الفرسان سبعة أشواط حول الكعبة المشرفة، كانت تحمل في أعماقها مزيجا من المشاعر المختلطة، من شوق وحنين، وإخلاص ويقين.
وبعد الطواف، صلّى “فرسان الهداية” ركعتي سنة الطواف خلف مقام إبراهيم- عليه السلام- وكان لم يتبق لهم سوى منسكين فقط من مناسك العمرة، وهما السعي والتحلل، حيث توجهوا من صحن الطواف إلى المسعى مباشرة، فشرب كل منهم من ماء زمزم، سائلين الله أن يزيدهم فضلاً وعلماً، وباشروا في السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواطٍ ذاهباً وإياباً، يتوقفون فيهما للدعاء تارةً، ويهرولون بينهما تارةً أخرى، إلى أن أتم بعضهم السعي قبل حلول وقت صلاة العصر، وبعضهم الآخر اضطرّ لقطع سعيه لأدائها، وتحسباً لأي مكروه، كان قد تم الاتفاق سابقاً على التجمع عند باب المروة عند نهاية السعي، لضمان عودة الفرسان في مجموعاتهم في حال افتراقهم عنها عند السعي أو الطواف.
هنا تكون نقطة نهاية السعي، حيث يتبقى للفرسان منسك وحيد من مناسك العمرة، ألا وهو التحلل، فبعد السعي، توجه الفرسان ككل إلى أحد محلات الحلاقة القريبة من الحرم الشريف مشيا، وأتموا فيه عمرتهم بالتحلل الكامل أو التقصير، سائلين الله الكريم تقبل عمرتهم والتجاوز عن أخطائهم.
وعند هذه النقطة، هل انتهت رحلة الفرسان؟
الإجابة: لا، فلا زال هناك المزيد ليحدث في قادم الأيام..
بعد أن أنهى جميع الفرسان أداء مناسك العمرة، توجهوا عن طريق الحافلات إلى الفندق الذي كان معروفا باسم “فندق الريان المكية” والذي كان بعيدا بعض الشيء عن الحرم المكي، إذ كان يبعد مسافة حوالي ١٢ كيلومترا عن الحرم؛ مما يجعل الطريقة الوحيدة للتنقل بينهما عن طريق الحافلات التي يوفرها الفندق.
لقد كان اليوم الأول – كما كان مخططا له – استراحةً للفرسان بعد ذلك السفر الطويل الذي دام يومين من الزمن تقريباً، حيث وصل الفرسان إلى الفندق وأتموا تحميل امتعتهم وزاد سفرهم من الحافلات الثلاث إلى الفندق عند أذان المغرب وقرر الفرسان أداء صلاتي المغرب والعشاء في مصلى الفندق جمعاً بعد تناولهم وجبة العشاء، لقد أثبت الفرسان الشجعان ذلك اليوم قوتهم وأخلاقهم الرفيعة، وأظهروا محبتهم وأخوتهم لبعضهم بعضاً، من خلال تعاونهم على تحميل الأمتعة، رغم التعب الشديد، من البداية وحتى النهاية.
في اليوم الثاني (يوم الإثنين) استيقظ الفرسان مبكرا استعداداً للتوجه إلى الحرم المكي الشريف لأداء صلاة الفجر عن طريق حافلات الفندق التي تتردد في طريقها من وإلى الحرم طوال اليوم دون توقف، وبالفعل، توجهت بعض مجموعات فرسان الهداية إلى الحرم في الموعد، وقامت بأداء صلاة الفجر خلف الإمام الشيخ ياسر الدوسري، الذي لطالما تمنى الكثير منا أن يصلي على صوته الجميل الذي تقشعر له الأبدان وتخشع منه القلوب إلى الله تعالى.
بعد صلاة الفجر في الحرم، استغل الفرسان وقتهم الثمين بتلاوة القرآن الكريم، وبحلقات تصحيح التلاوة، وبالاستغفار والتسبيح والتهليل، وما تيسر من الذكر والدعاء، ثم قاموا بأداء صلاة الشروق/الضحى عند وقتها، وتوجهوا إلى الحافلات عودةً إلى الفندق.
وكالعادة بعد ذلك، تناول الفرسان وجبة الإفطار ثم عادوا إلى غرفهم لأخذ قسط من الراحة قبل صلاتي الظهر والعصر، التي قاموا بتأديتها جماعة في مصلى الفندق نظراً لبعد الحرم الشريف عنهم، ولكنهم ذهبوا مجدداً إليه لأداء صلاتي المغرب والعشاء، قبل أن يعودوا إلى الفندق لتناول وجبة العشاء التي كانت – مثل باقي الوجبات الأخرى – بنظام (البوفيه).
وهكذا، استمرّت رحلة الفرسان الأقوياء في مكة المكرمة لمدة خمسة أيام، كان هذا هو الروتين الرئيسي لها إضافةً إلى بعض الفعاليات والزيارات والدورات والمسابقات الدينية في أيام أخرى.
ففي اليوم التالي (يوم الثلاثاء) قامت حملة فرسان الهداية بتنظيم زيارة إلى المزارات والمشاعر المقدسة في مكة المكرمة بعد وجبة الإفطار لذلك اليوم، فقد توجهت جميع الحافلات وهي تحمل جميع الفرسان على متنها إلى تلك المشاعر واحداً تلو الآخر، ابتداءً بمخيمات مِنى، مروراً بمزدلفة (حيث رمي الجمرات) وصولاً إلى غار حراءٍ (لم يتم الصعود إلى الغار ولكن تمت زيارة متحف الوحي القريب جدا منه). لقد كان ذلك اليوم مليئاً بالتجارب الإثرائية للفرسان، تعلموا فيها مناسك الحج المختلفة على وجه الواقع، وتتابع الرسالات السماوية للأنبياء من النبي آدم عليه السلام إلى الوحي الذي نزل على النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك في متحف الوحي.
وفي اليوم الذي يليه، نظم مشرفوا الحملة وعلى رأسهم الأستاذ مظفر العامري دورة في فنون الإلقاء والخطابة الأصيلة كانت بعنوان “كن مؤثراً”، تعلم فيها جميع الفرسان ذلك اليوم الكثير عن مهارات الخطاب والتحدث أمام الجمهور بطلاقة وفصاحة.
ولقد اختتمت فعاليات ذلك اليوم بحصول الجميع على شهادات مشاركة وتقدير، وهدايا تذكارية قدمها منظمو الحملة للفرسان.
وقد تم تخصيص اليوم قبل الأخير من هذه الرحلة لمن كان يريد التسوق وشراء بعض الهدايا التذكارية من مكة المكرمة لأهله من باب الشوق والانتماء.
وفي صباح اليوم التالي (الجمعة) تكون قد انتهت إقامة الفرسان في مكة المكرمة، وها قد حان موعد ركوب الحافلات عودةً إلى أرض الوطن، عمان الحبيبة.
وبالمثل، شارك الكل في تحميل الأمتعة والزاد من الفندق إلى الحافلات الثلاث، وهم يشعرون بالحزن الشديد والشوق إلى مكة المكرمة حتى قبل مغادرتها.
وقرابة الساعة الحادية عشرة صباحاً، انطلقت الحافلات في رحلة جديدة إلى عمان الحبيبة، حاملةً في جوفها شوقاً كبيراً وتوقاً شديداً لهذه الأرض الطاهرة المقدسة، أرض الكعبة المشرفة، مكة المكرمة، ولولا الاشتياق إلى الأهل والأحبة في الوطن، لانهارت الدموع من العيون وبكت الأفئدة لفراق هذا المكان العزيز.
وفي ذلك اليوم، وبما أن الظروف منعت الفرسان من أداء صلاة الجمعة في الحرم الشريف، لم تمنعهم الظروف من تلاوة سورة الكهف في طريقهم خروجاً من مكة المكرمة، والإكثار من الذكر والدعاء بأن لا تكون آخر زيارة لهم لبيت الله الحرام.
واستمرت فعاليات دورة “كن مؤثراً” طوال رحلة العودة، وذلك بمشاركة الجميع في تقديم ما يجدونه مناسباً من الخطب والقصص والروايات والمقالات تطبيقاً لما تعلموه في هذه الدورة المميزة، وهو ما ساهم في تقوية أواصر المحبة والألفة والمودة بين الفرسان الأشاوس.
وبعد حوالي يومين من الزمان، وصلت الحافلات الثلاث إلى أرض الوطن، واختتمت بنزول الفرسان منها وتوديع بعضهم بعضا، تلك الرحلة الرائعة التي شكلت حكايةً لن تنسى في ذهن كل فارس أبيّ ترك أهله ووطنه ليعتمر في بيت الله العتيق، ويتعلم المزيد عن دينه العريق، من كل فجٍ عميق.