راشد بن حميد الجهوري
تختلف أذواق العُمانيين في تفضيل النكهةِ المُضافة إلى القهوة، ويظهر القرنفل بعبقه الساحر وطعمه المميز كأحد المنافسين الأقوياء لكسب أكبر عددٍ من أذواق المرتشفين، ولئن كان ذلك في جانب الذوق والطعم والمزاج، فإن هناك مجالاً أوسع وأرحب يربط العُمانيين بهذا المنتج الزراعي، ألا وهو الجانب التاريخي، فالقرنفل كان حاضرا في وثائق المراسلات بين عُمان وأفريقيا؛ ليُعبرَ عن نشرات اقتصادية كانت ترحل عبر أمواج المحيط مُبينةً حصاد الموسم الذي كتبت فيه الوثيقة، وتعطي دلالات وأبعاد أخرى نحاول تلمسها في السطور القادمة.
إنَّ الاستثمار في زراعة القرنفل والعناية به من قِبل العُمانيين المهاجرين إلى شرقي أفريقيا، ليعبر أولا عن الحس الزراعي الذي يمتلكه العُماني المكافح، كما أنه يحكي قصة الخبرة التي تبدأ من مفاوضة صاحب المزرعة لاستثماره مدة من الزمان لا تقل عن سنة واحدة، وما يتبع ذلك الإتفاق من توظيف العمال وشراء الأدوات اللازمة من أجل العناية به، وقطفه بأسهل الطرق بحيث يضمن المحافظة على أغصان الشجرة الأم فهي أمانة لديه، و من ناحيةٍ أخرى يضمن عدم فقد كمية كبيرة منه أثناء القطف، وهناك من العُمانيين من تملك بعض الأراضي بالشراء، وتستمر العناية بحصاد القرنفل إلى المرحلة الأخيرة، وهي بيعه للشركة المصدرة، والقرنفل ليس مجرد نوعٍ من التوابل، بل يدخل في كثيرٍ من الصناعات الغذائية والدوائية، وكانت أوروبا تستورده من موانئ أفريقيا.
لقد جاء في أحد الوثائق المُرسلة من بندر ويته (أحد موانئ أفريقيا) إلى عُمان في 23 محرم 1358هـ الموافق 14 مارس 1939م :(ولمّا وصلنا وجدنا الجماعة كلّهم بخير، ووجدنا القرنفل ثامر، والأسعارة ممتازة)، وفي وثيقة أخرى وصلت في نفس العام من بندر زنجبار إلى عُمان جاء فيها: (ولم نرَ في سفرنا بؤس ولا مكره، الحمد لله ربّ العالمين، وجدنا الأسعار ممتازة)، وفي الوثيقة الثالثة الواردة من بندر الجزيرة الخضراء إلى بلد الحيلين – من قرى وادي الجهاور بولاية السويق- وبعد الوثيقتين السابقتين بفترة بسيطة: (وإن سألتم عن القرنفل فهو ثمره كثير والعاقبة خير)، وأما الوثيقة الرابعة فقد وردت في 8 ربيع الثاني 1365 هـ الموافق 11 مارس 1946م :(وأما القرنفل في هذه السنة مثمر كثير الحمد لله عسى الله أن يجعل بالبركات)، والملاحظ أنَّ جميع النشرات الاقتصادية المدونة في هذه الوثائق تحمل أخبارا طيبة ومبشرة، والاهتمام بمحصول القرنفل واضح فيها، وأيضا تشير إلى أنَّ موسم حصاد القرنفل يوافق شهر مارس أي في فصل الربيع، ويقطف القطف الأولى ثم يقطف القطفة الثانية، والثانية تكون أجود وأغلى، والسؤال الذي يمكن طرحه في هذا السياق: ما أهمية هذه الأخبار عن القرنفل بالنسبة لأهل عُمان؟!
يظهر من خلال استقراء مضمون المراسلات التي ورد فيها ذكر القرنفل أنه المحصول الأهم الذي استثمروا فيه غربتهم وجهدهم، ويضاف إلى ذلك أنَّ القرنفل كان أبرز صادرات الجزيرة الخضراء زنجبار، وفي الطرف الآخر فإن أغلب العُمانيين الذين استثمروا في القرنفل تنتظر منهم أسرهم في عُمان ما يتيسر إرساله من مبالغ تعينهم على أعباء الحياة الصعبة في ذلك الزمان، وعادة تبادل العلوم والأخبار سبب آخر لهذه الأخبار الاقتصادية المدونة، مع ما تحمله من معاني الشكر لله من جهة المُرسل، وما تحمله من المشاعر الطيبة التي ترافقها دعوات البركة والتوفيق وحب الخير للآخرين من جهة مستقبل الرسالة.
وبعدُ: فإنَّ حكاية القرنفل مع العُمانيين في مراسلاتهم حكاية طويلة لا يمكن أن تختصرها هذه الأسطر، وهناك حكايات أخرى تنتظر التنقيب عنها في مخطوطات مهاجرة أو أخرى لم تدرس بعد، وبعضها الآخر جاءت بشكل شفهي على لسان من عاشوا ذلك العصر، وحكوا لنا بعض ذكرياتهم، ولسان الحال كما قال الشاعر:
على ذات القُرُنفل قد حططنا وكان بطيبها طيب الحياة
(مصدر المقال: 1- التأريخ السياسي والعلمي للسويق والمصنعة، إعداد: فهد بن علي السعدي، ص159-169/ ج3.
2- مقابلة مع الوالد علي بن حمد بن سعيد المقبالي: سافر إلى زنجبار واشتغل في استثمار مزارع القرنفل هناك في أواخر الخمسينات وأوائل الستينيات من القرن الميلادي الماضي، ويسكن حاليا في ضيان الجهاور بولاية السويق).