مقال: لا تأكلوا أرصدتكم
أحمد بن سالم الفلاحي
يتعدد الفهم هنا لمعنى الرصيد؛ فمنه ما يذهب الى الرصيد المالي “النقد”؛ ومنه ما يذهب الى الرصيد المادي، ويدخل فيه العقارات، والمواد الثمينة الأخرى كالذهب والفضة وغيرها؛ ومنه ما يذهب الى الرصيد المعنوي، ويدخل فيه كل السمات الخلقية غير المحسوسة شكلا، والمحسوسة أثرا، كالبذل والعطاء والمعاملة الحسنة، والود والإخاء، ويدخل فيها الرصيد الاجتماعي، وما تحتله من مكانة اجتماعية في الوسط الذي تعيش، وقد يذهب الفهم الى الرصيد الأسري؛ من خلال تكوين الأسرة في وسط المجتمع، وإن كان هذا الأمر بالذات يأخذ البعدين المادي والمعنوي في آن واحد، وقس على ذلك أمثلة كثيرة في الحياة، فحياتنا مجموعة أرصدة، ولنا أن نختار في أيهما ننمي، وأيهما نتعامل معها برفق.
يجمع كل هذه الأمثلة وغيرها مفهوما عاما أسمه “رصيد”، وهذا الرصيد يمكن مضاعفته في كل هذه الأمثلة والحالات، ويمكن أيضا تضييعه بكثير من الممارسات، وتكون كلا الصورتين موقوفتين في نموهما، أو اخفاقاتهما على ما نتميز به من حكمة وتعقل وتجربة حياة، فحالات الإخفاق متوقفة هي أيضا على مجموعة الأخطاء وسوء التقدير الذي نكون عليه في أحايين كثيرة، وجميعنا، بلا استثناء؛ واقعون ضمن مفهوم “الفضيلة بين طرفين؛ كلاهما رذيلة”، وهذا المفهوم الذي يعكس سلامة توجهنا، او العكس، فهو الذي يدعونا الى الوصول الى حالات من التوازن حيث لا إفراط ولا تفريط، وكل الأرصدة التي نتحصل عليها المادية والمعنوية يرفع سقف مكانتها، او ينزله هو مستوى التعامل معها، وفهم مآلها، ومستوى التعقل الذي نبديه تجاهها، لذلك تظل في حقيقتها مكون مهم لشخصياتنا، ولسمو إراداتنا، لحقيقتنا، ولما نختزنه من تجارب وخبرات.
يدعونا عنوان المقالة الى عدم التفريط في مختلف هذه الأرصدة “لا تأكلوا أرصدتكم” فمن كان صادقا فليظل على صدقه أبدا، ومن كان كريما فليظل على كرمه أبدا، ومن كان ودودا فليظل على وده أبدا، ومن كان متعاونا فليظل على تعاونه أبدا، ومن كان أمينا فليظل على أمانته أبدا، لا تستسلموا لرياح التغيير المداهمة لنا في هدوئنا وقناعاتنا وثوابتنا، واجهوها بإيمانكم بما أنتم عليه، مهما كانت التكلفة، فالتنازل عن القناعات الواهبة نفسها للحياة، يعد انفصام شخصي؛ معابا ومهلكا، لا تستسلموا لمفهوم السوق القائم على الربح والخسارة، فأينما يكون الربح نكون فقط، ولا نطيق أن نتحمل الخسارة أبدا، فحياتنا أيضا قائمة على المراوحة بين الربح والخسارة، ولكن خسارة ما نؤمن به وما نقتنع به، يكون وقعه مؤلما أكثر.
“لا تأكلوا أرصدتكم” تظل هذه الأرصدة كلها عنوانا كبيرا لنا، شافعا لنا في مواطن كثيرة عند من نتعاطى معه ممن حولنا، حيث يكبرون ذلك كله، ويعدونه مكسبا للحياة كلها، ويعتبرونه أنموذجا يجب الاحتذاء به؛ والاحتفاء به، والتصرفات “الغبية” في بعض الأحيان تفقدنا هذا الرصيد الإنساني الجميل، فيذهب أدراج الرياح، ونعود الى مربعنا الأول؛ حيث نبدأ من جديد، وفي ذلك تهالك غير محمود، وقد لا يقبله منا الآخرون، فالشمس عند مغيبها، لا يخلفها الا الستارة الداكنة من السواد القاتم، حيث تعود الكائنات الى تلمس طرقها بصعوبة بالغة، وبحذر شديد.
أرصدتنا في هذه الحياة كثيرة وعديدة؛ تتيح لنا حياة آمنة سعيدة، حيث توصلنا الى كثير من القناعات، والرؤى الرشيدة المحملة بالخير، فعلينا أن ننزلها المنزلة المباركة من الرضى والقناعة، ولا نوغل كثيرا حتى لا نقع في مأزق التفريط بما تم اكتسابه، وفي ذلك حكمة بالغة (ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا).