محاولات كفاح الصغار في زمن الطيبين
سعيد بن خميس الهنداسي
قد تكون قصص الكفاح التي نسمعها أو نقرأ عنها كثيرة وفيها من التحدي والشجاعة شيء كثير، وعلى غرار هذا تدور حكايتنا اليوم في زمن انتشر فيه الفقر والحاجة وكان لابد من محاولة البحث عن حلول، فغالبية الناس في عمان كانوا يعيشون نفس الظروف وخاصة أهل ساحل الباطنة في فترة منتصف السبعينات من القرن الماضي حيث كانت بعض الأسر الفقيرة لا تكاد تملك قوت يومها والحياة المادية لهذه الأسر ضعيفة جداً، وأنا في تلك الفترة في سن الثامنة، أرى أسرتي تعيش في هذه الظروف الصعبة فيدور في هاجسي صراع يجب أن أعمل شيئا لمساعدتهم، نعم كنت صغير السن ولكني كنت أملك همة الرجال وهذا حال الكثير من كان في سني، ففي تلك الفترة كنت أكثر حيوية ونشاط وبدلاً من الجلوس بالبيت أو اللعب مع الأطفال إذا بي أبحث عن أي فرصة عمل بدون ما أشعر والدتي بذلك، وفي هذا السياق أذكر كان جنبنا بيت يبني بالطابوق نوع يسمى بو سته، ويعمل فيه أستاذ طابوق هندي وشباب عمانيين مساعدين يعملون الخلطة الإسمنتية ويحملونها في سطل بلاستيك للأستاذ ويحملون له أيضا الطابوق، ومع بداية اليوم قلت في نفسي هذه فرصتي أشتغل معهم ولو أنني لا أقدر على حمل الطابوق ولا الإسمنت ولكن قلت أتحمل ، المهم أني أحصل معهم على نصيبي واستمريت في العمل لعدة ساعات أبذل ما في وسعي من جهد وأضغط على نفسي وأصبر حتى ينتهي توقيت عمل اليوم، وقبل الظهر بقليل إذا بصاحب المشروع يفاجئني قائلا: “تريد تستمر مع الشباب على راحتك لكن ما لك معي فلوس ولا بيننا اتفاق أصلاً ” وهنا كانت الصدمة والألم يعتصر المشاعر ويحطم النفسية وتتبخر الأحلام وتضيع الآمال وخسارة ذلك الجهد والتعب الذي ذهب بدون مقابل بسبب اندفاعي وسوء تقدير مني، ومع هذا قلت أحاول في المرة القادمة أوازن الأمور وأقدرها بطريقة أفضل .
وفي مرة مشيت للشارع العام، واستقلّيت سيارة أجرة لسوق البداية واشتريت صندوق برتقال أذكر أنه كان خشبي، ولعدم وجود أماكن للبيع مظللة جلست في الشمس أبيع بالدرزن ونص الدرزن إلى أن قلت حركة الناس قريب الظهر، فعدت إلى البيت وأنا أحمل الصندوق الخشبي وبه الكمية المتبقية من البرتقال والمبلغ الذي بعت به البرتقال، لكن هذه التجربة أيضا قاسية جدا، فلو استمريت عدة أيام بنفس الوضعية لكان وضعي الصحي صعب للغاية من شدة حرارة الشمس والعطش، وقد يمر علي شخص يشتري كل نصف ساعة أو أكثر وأحتاج إلى موقع مناسب، وإلى أكياس وأحتاج إلى ميزان وغيره وأحتاج إلى مبلغ للنقل كل يوم، فلم تكن هذه الفكرة مناسبة أيضا ولكنها محاولة من خارج الصندوق.
ومع ذلك لا يكاد يومي العادي يخلو من أعمال مساعدة للأسرة بشكل عام، وخاصة في حالة قيام الوالدة بالذهاب مع النساء في الفجر لجلب مياه الشرب العذبة من أماكن بعيدة، أو قيامها بمهمة جلب الحطب من السيح، أو قيامها بتوفير أكل للحيوانات من المزارع، فأقوم بعمل القهوة والشاي وشيء من الأكل البسيط، وقد أذهب في الصباح في مهمة رعي الغنم إلى قريب الظهرية، وغالباً العصر نذهب للمزارع لشراء طعام للحيوانات، كما أقوم أحياناً بسقي النخيل والمزروعات، وفي مرة أذكر في موسم القيظ تأخر الجداد بمزرعة جدي، وأخذني الحماس لتقمص دوره وقمت بجد خمس من النخيل لكن هذه التجربة لم تكرر كثيرا ربما لخطورتها، وفي مرات عديدة ذهبت في رحلات بحرية لصيد الأسماك في أوقات مختلفة مع أهل الخبرة، بعضها ليلية وبعضها تستمر للضحى أو لفترة الظهيرة.
فالجميع ممن في وضعي وسني في تلك الفترة قد يخاطر بنفسه فلم يمنعهم من العمل فترة الظهيرة وشدة ارتفاع درجات حرارة الصيف ولا شدة برودة فجر أو ليل الشتاء القارص وذلك من أجل طلب الرزق وكسب العيش، فقد سَعَوا في أرض الله الواسعة في مختلف المواقع والمجالات بهدف مساعدة أسرهم المحتاجة.
على العموم هذه إطلالة على حياة الناس في حقبة من الزمن السابق فقد أجبرت الظروف هؤلاء الصغار على تحمل أعباء الحياة القاسية في سن مبكر لتوفير مستوىً معيشيّ أفضل لأسرهم مكررين محاولات الكفاح في ذلك الزمن الجميل.