صفحات من عبق الماضي (٢) مرحلة الفتوة وما بعدها
خلفان بن ناصر الرواحي
الفُتُوّة في المعاجم العربية هي الشباب بين طوري المراهقة والرجولة، وتعرفه أيضاً على أنها النجدة أو نظام ينمي خلق الشجاعة والنجدة في الفتى كما جاء في المعجم الوسيط. قال أحد الحكماء العرب عن درجات الفتوة:”وهي على ثلاث درجات: ترك الخصومة، والتغافل عن الزلة، ونسيان الأذية”.
وبعداً عن المعاني العامة التي سقناها، فذكريات صفحاتنا من هذه المرحلة هي التي ساقت قلمنا للكتابة دون الخوض في تفاصيل المعاني أو السرد بالتفصيل لكل صفحاتنا، وإنما ذكرنا ذلك استئناساً وتوضيح المعنى فقط.
فمثل ما قلّبنا معكم صفحات مرحلة الطفولة، سوف نقلب هنا بعضاً من صفحات تلك الذكريات الجميلة التي ما زالت عالقة في الأذهان عن مرحلة الفتوة والشباب.
تلك كانت مرحلة مهمة جداً بالنسبة لنا في بناء الشخصية بين البيت والمسجد والمدرسة والمجتمع؛ حيث ترعرعنا في مجتمع ريفي عرف بساطة الحياة والتلاحم الأسري والاجتماعي، وقضينا جل وقتنا في مساعدة أهلنا والآخرين في كثير من شؤون الحياة؛ فرعينا الغنم، وشاركنا في العمل الزراعيّ والاجتماعي، وتعلمنا على أيدي معلمي القرآن الكريم في حقبة السبعينات، وكانت لنا كذلك مهمة خاصة في إكرام الضيف بمساعدة أهلنا؛ وذلك في خدمة تقديم القهوة العربية وما تيسر من تمر أو بعض الأكلات الشعبية المتوفرة في ذلك الوقت، والتي كانت تتسم بالبساطة وعدم التكلف كما هو الحال في عصرنا الحاضر.
بالإضافة لذلك، لم يكن هناك اهتمام كبير بحياة الفتوة المترفة كما نراه في عصرنا الحاضر؛ حيث كان الاهتمام الأكبر من آبائنا بأن يكون الأبناء جيلاً محافظاً على أسس متينة وسليمة تعينه على قوام نفسه والأسرة والمجتمع حاضراً ومستقبلا، والمحافظة على أداء الصلوات المفروضة، وصلة الرحم، واحترام الصغير والكبير، والحفاظ على سمعة الأسرة والمجتمع، والاهتمام بالدراسة لينالوا نصيبهم من التعليم الذي حرمته ظروف الحياة القاسية عن الآباء والأجداد؛ فهمهم الأكبر ليصبح الأبناء أكثر حظاً من الآباء والأمهات في مجتمع كانت تطغى عليه الأمية؛ لينالوا نصيباً من التعليم وحظاً من الحصول على وظيفة مرموقة تعينهم على تحقيق رغبات الحياة والعيش الكريم.
فما زالت بعض صفحات الذكريات تمر علينا، ونستذكر كيف كنا في مدراس الخيام، وكيف كانت مراجعة الدروس في بيوت الطين على القناديل الزيتية، وتمر بنا مخيلتنا حيناً بطيفها على ذكريات الماضي الجميل بين بساتين النخيل والواحات الجميلة تارة أخرى، وبين بيوت الطين الصغيرة مساحة الكبيرة بوزنها التربوي والصبر الجميل والقناعة والرضا بما قسم الله لعباده من رزق، ويسوقنا الحنين تارة أخرى بين صفحات خرير المياه في سواقي الأفلاج أو مجاري الأودية التي كانت لا تخلو من وجود الماء إلّا نادرا، وتطوف بنا مخيلاتنا في صفحات الماضي حيناً لاستذكار لحظات مراعي الغنم التي كنا نعيشها مع حياة الريف. فما أجملها من لحظات!
ونحن نقلب هذه الصفحات نتذكر أيضاً كيف كانت العلاقات الأسرية والاجتماعية وكيف أصبحت اليوم؟ نعم، قد تختلف الأغراض من تلك العلاقة بين زمن وآخر وبين جيل وآخر، لكنها تتفق جميعها لكسر قاعدة العزلة الاجتماعية، فقد انتشرت هذه المشكلة في عصرنا الحاضر عند شريحة كبيرة من أبنائنا الشباب في مجتمعنا العُماني، والملاحظ أن الغالبية منهم غير محسوس الوجود والمعرفة في أوساط بيئة الحي أو البلدة التي يعيش فيها إلا من قلة ممن هم على شاكلته أو يجمع بينهم العمل أو الدراسة أو ما شابه ذلك، أما وجودهم في الوسط الاجتماعي فيكاد يكون معدومًا أو نادر الحدوث!
نتفق جميعًا بأنّ نمط الحياة المعاصرة قد تغيّر عن سابقه من الحياة السالفة التي عشناها أو عاشها آباؤنا وأجدادنا منذ عشرات السنين، ولكن يبقى الاتفاق الضمني حاضرًا لضرورة بناء تلك العلاقة في الأسرة والمجتمع؛ لكونها تترتب عليها عدة أمور لها علاقة ببناء الحياة الأسرية والاجتماعية، وبناء الشخصية وإثبات الذات والدور الفاعل لخدمة المجتمع، ونهضة الوطن.
فما أجمل بعض صفحات ذلك الزمن الذي ذقنا حلوه ومره، ونتوق إلى عودته -رغم قساوته- ونعلم يقيناً استحالة ذلك لعودته!
ولنا من صفحات عبق الماضي تتمة بحول الله.