2024
Adsense
مقالات صحفية

قراءة في الرسالة العمانية المرتحلة إلى بلاد السند

راشد بن حميد الجهوري

تمثل الوثائق المحفوظة في ذاكرة الشعوب كنزا من المعرفة المتعددة الجوانب، ويزخر التاريخ العماني بالكثير من تلك الوثائق، وهناك مصطلح تعارف عليه العمانيون يعبر عن نوعية من تلك الوثائق، ألا  وهو السير، و”السيرة” في عرفهم تعني:  رسالة يبحث فيها مؤلفها قضية نازلة في المجتمع، تستدعيه أن يقول رأيه فيها:  استقلالا، أو جوابا لسائل، أو ردا على مخالف أو معترض (سلطان الشيباني)، وتزداد السيرة أهمية عندما ترتحل خارج أقطار الوطن عابرة المحيط الواسع والأمواج المتلاطمة نحو بلد آخر مسجلة بذلك حلقة من حلقات التواصل، والتي تعبر عن روابط عميقة بين البلدين في فترة من فترات الزمن.

هذا، وقد ارتحلت إحدى تلك السير، وكانت اسما على مسمى، فقد احتوت على علم شرعي متنوع يشمل العقيدة والأحكام والأخلاق، وقد ازدادت وهجا ونورا بالآيات القرآنية الواردة فيها، فكانت مضيئة لم تحجبها ظلمات النوازل والفتن حتى وصلت بكامل وهجها إلى بلاد السند، وبالخصوص إلى أهل المنصورة منها، وكان ذلك في القرن الخامس الهجري، وبلاد السند إقليم من أقاليم شبه القارة الهندية بمفهومها الواسع، يشقه النهر الكبير المعروف بنهر السند، ويتبع حاليا جمهورية باكستان.

إن سطور (السيرة المضيئة إلى أهل المنصورة من بلاد السند) للإمام العماني راشد بن سعيد اليحمدي (ت: ٤٤٥ هجري) ، والتي أرسلها إلى ثلاثة من علماء هذه البلاد، تعبر عن صفحة من الصفحات المشرقة للتاريخ العماني الذي يزخر بأمثال هذا الإمام، والذي قام بأدوار جليلة، ومنجزات رائعة سواء على المستوى السياسي أو العلمي، وهذه السيرة بما فيها من درر علمية تدلل على البسطة العلمية التي امتلكها هذا الإمام الجليل، وكيفية توظيفها في صياغة هذه السيرة الجامعة للكثير من القضايا الشرعية بأسلوب لغوي متين وراقي، ولذلك استحقت وصف الإمام نور الدين السالمي لها: “وهي سيرة بديعة ورسالة غريبة، تدل على غزارة علمه وفرط ذكائه وفهمه” (تحفة الأعيان ٣٠٨/١)، فلا عجب وهي بهذه الأوصاف أن تكون مضيئة لمن يقرأ سطورها، وما أحوجنا للنظر في هذا الإرث الحضاري الزاخر.

لقد جاءت السيرة المضيئة للإمام راشد بن سعيد اليحمدي حافلة باللفتات والأساليب التربوية فجمعت بين الترغيب والترهيب، ومن ذلك: (ثم إني أعلمكم أن الله شرع دينا قيما، فمن سلكه كان حنيفا مسلما، ومن تركه كان كافرا مجرما)، وأورد قصة ابني أدم عليه السلام، واستثمرها في التدليل على قبول الطاعة من المتقين، وكان شرح الآيات القرآنية المستدل بها باب من أبواب التسهيل على القارئ فكانت دررا تفسيرية، وصاحب ذلك ربط بين الآيات الواردة ذات الموضوع المتقارب، وكان لجانب النصح والإرشاد مساحة معتبرة في هذه السيرة خصوصا في جانب الأخلاق والآداب، وعند التعمق أكثر نجد جانب تهذيب النفس يظهر جليا بالتحذير من حبائل الشيطان وفتن الدنيا، وشكلت العقيدة بمسائلها المتنوعة أركان هذه السيرة الغراء.

وختاما: ليست هذه قراءة تحليلية للسيرة المضيئة، ولكنها إشارات لافتة نحو سيرة ارتحلت مسيرة أشهر بقياس زمانها، هذا، وقد يرحل العلم كما يرحل إليه الطالبون، ثم عادت تحكي لنا صورة من السياسة الشرعية في قالب ديني يسر الناظرين.
(مصدر المقالة: كتاب السيرة المضيئة إلى أهل المنصورة من بلاد السند، للإمام راشد بن سعيد اليحمدي، تحقيق وعناية:  سلطان بن مبارك الشيباني، ذاكرة عمان، مسقط، ط١، ١٤٣٦ﮭ- ٢٠١٥م)

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights