استقالتي: إعلان لحياة أفضل
غزلان بنت علي البلوشية
لم تكن استقالتي مجرد ورقة رسمية تُقدم في لحظة عابرة، بل كانت نتيجة رحلة طويلة من المشاعر المتداخلة والتجارب الصعبة، إنها قصة صراع بين التمسك بالأمل والاستسلام للألم بين السعي لتحقيق الذات والبقاء في دائرة القهر والتجاهل، تراكمت الأيام وتوالت الأحداث، حتى صار هذا القرار حتمياً، ليس فقط لإنهاء مرحلة، بل للبدء في أخرى أستعيد فيها نفسي التي أرهقتها الضغوط، وأعيد بناء ما تهدم تحت وطأة الغضب، الحزن، والخذلان.
كل صباح، كنت أبدأ معركة جديدة مع نفسي، محاولة إقناعها بالذهاب إلى مكان بات بالنسبة لي ساحة حرب بلا عدالة، شعرت وكأنني أرتدي درعاً هشاً وأحمل سلاحاً بلا قوة، بينما أواجه موجات متلاحقة من التوتر، ضغوطاً تفوق قدرتي على التحمل، وتوقعات غير واقعية تسحق كل ما هو إنساني في العمل، لم تكن المشكلة في صعوبة المهام، فقد كنت مجتهدة إلى أقصى الحدود، أضع بصمتي في كل ما أفعله وأحقق نجاحات يشهد لها الجميع، لكن ما كان يقتلني حقاً هو غياب التقدير.
كل ما قدمته من إنجازات كان يُمحى في لحظة، كأن العمل الجاد والنجاحات المتتالية لم تكن سوى سطور تُكتب في الرمل لتتلاشى مع أول موجة من النقد أو سوء الظن، وبينما كنت أسعى جاهدًة لإثبات نفسي، كان القيل والقال يحاصرني كظل لا يفارقني. كلمات تتناثر في الأروقة، تحمل سمومها لتشكك في نواياي، تُحرّف جهودي، وتجعلني أبدو وكأنني أركض في دائرة مغلقة بلا نهاية.
الغضب كان البداية، شعرت أنني أعمل في منظومة ترى الناس أرقاماً وأداء، دون أن تلتفت إلى الجانب الإنساني. كنت أواجه إدارة أشبه بعجوز شمطاء من قصص الماضي، لا تنظر إلى ما أنجزت، بل تنبش كمن يبحث عن عيوب في أرض لا تعرف سوى الإثمار كل قرار، كل إجراء، كان أشبه بمحاولة متعمدة لإفقادي الأمل، بينما يقف زملاء، بعضهم منافسون بلا شرف، يغذون النار تحت قدمي.
أما القهر، فقد كان صامتاً لكنه أكثر إيلاماً، وجدت نفسي مضطرة لأن أبتلع قرارات تعسفية، أن أصمت أمام ممارسات ظالمة، فقط لأنني كنت مؤمنة بأن العمل الجاد سيظهر يومًا الحقيقة، لكن الحقيقة، كما اكتشفت لاحقاً، ليست دائمًا مُنصفة، خاصة في بيئة تزرع الإحباط بدلاً من التحفيز، وتختار أن تتجاهل المتميزين لتغرق في صراعات تافهة.
كل هذه المشاعر لم تكن مجرد عواطف عابرة، بل كانت تجربة حيّة قادتني إلى إدراك أن الاستمرار في مكان يُشعرني بالقهر والغضب لا يمكن أن يكون خياراً صحيحاً، لقد كنت بحاجة إلى الخروج، ليس فقط لأهرب من الظلم، بل لأحمي نفسي من الانهيار، ولأجد مكاناً جديداً يُقدر قيمة الجهد، ويرى في الإنسان أكثر من مجرد ترس في آلة العمل.
ما أصعب أن يتحول الحلم إلى كابوس، أن تجد نفسك في مكان كنت تعتقد يومًا أنه بوابتك نحو النجاح والسعادة، ليصبح هو ذاته مصدر حزنك وألمك، كنت أعود إلى منزلي منهكاً، ليس بسبب العمل فقط، بل بسبب الحرب النفسية التي أخوضها يومياً، لم يكن الإنهاك جسدياً بقدر ما كان عقلياً وعاطفياً، حيث كانت تساؤلاتي تلاحقني بلا هوادة: لماذا أشعر بهذا الثقل؟ لماذا أشعر وكأنني أطفو بلا هدف في محيط من الإحباط؟
كانت ضغوط العمل تمتد كظل طويل لا ينتهي، تتسرب إلى لحظاتي الخاصة، حتى أصبحت أخشى التفكير في الغد، لأنه يحمل معه نفس التحديات التي أنهكتني بالأمس، كلما أغمضت عيني، رأيت نفسي أسير في دوامة لا تنتهي من التوقعات التي تفوق قدرتي، والأصوات التي تنتقد بلا مبرر، والخوف من الفشل في منظومة لا ترحم.
كانت تلك الليلة مختلفة، ربما لأن صراعي الداخلي بلغ ذروته. نظرت في المرآة، لكن هذه المرة رأيت شيئاً مختلفًا، لم أرَ شخصًا متعبًا فقط، بل رأيت شخصًا عالقًا بين ما يريده حقاً وبين ما يُجبر عليه، سألت نفسي بصوت مرتعش: (هل هذا هو المكان الذي أريد أن أكمل فيه حياتي؟ هل أستحق كل هذا الألم لأثبت شيئًا في بيئة لا ترى قيمتي؟)
كانت الإجابة واضحة، لكنها لم تكن سهلة.( لا، هذا ليس مكاني).
تلك اللحظة لم يكن القرار عابراً، بل كانت ولادة جديدة. شعرت وكأنني أعيد ترتيب أفكاري، أنظر بوضوح إلى ما أريده وما لا أريده، فكرت في الضغوط التي كنت أضعها على نفسي، في محاولاتي الدائمة لإرضاء الجميع وإثبات جدارتي، رغم أنني أدرك جيدًا أن البيئة المحيطة لم تكن عادلة.
الصراع لم يكن في القرار نفسه، بل في مواجهة الحقيقة، ماذا لو كان الخطأ مني؟ ماذا لو كنت أهرب من التحديات بدلاً من مواجهتها؟ لكنني أدركت سريعًا أن التحدي الحقيقي هو أن أحمي نفسي، أن أختار البيئة التي تستحق جهدي، وليس البيئة التي تسحقني تحت وطأة التوقعات الظالمة.
استقالتي لم تكن استسلاماً، بل كانت إعلاناً عن استعادة نفسي، عن تحرير روحي من قيود الحزن والخوف، وعن بدء مرحلة جديدة أستطيع فيها أن أكون أنا، بكل ما أملك من قدرات وطموحات، كانت تلك اللحظة هي الخطوة الأولى نحو حياة أكثر سلاماً واتزاناً، حياة أعيد فيها تعريف النجاح بمعاييري أنا، وليس بمعايير الآخرين.
لم تكن استقالتي نهاية، بل بداية جديدة، تعلمت أن أصغي لقلبي، أن أضع حدودًا تحميني، وأن لا أخاف من التغيير. علمتني التجربة أن الحياة قصيرة، وأننا نستحق أن نكون في أماكن تُشعرنا بالقيمة والاحترام.
استقالتي ليست مجرد قرار، بل هي إعلان عن رغبتي في حياة أفضل، أكثر اتزاناً وإنسانية.