2024
Adsense
مقالات صحفية

في صالة الانتظار .. حكايات الألم والأمل

  ناصر بن خميس السويدي

إنتظاري في صالة انتظار المراجعين في المستشفى أطلعني على أمور كثيرة تجعلنا ندرك أهمية حمد الله على نعمة الصحة والعافية. فقد رأيت التعب والألم مرسومًا على وجوه المراجعين، وكأنهم قضوا ليلتهم في معاناة أرهقت أجسادهم وأثقلت أرواحهم، وجاءوا يبحثون عن علاج يخفف عنهم أوجاعهم وينهي معاناتهم.

في هذه اللحظات، تأملتُ كيف أن الصحة نعمة لا يشعر بها الكثيرون إلا عند فقدها، وأننا في غمرة الحياة قد نغفل عن شكر الله على عافيته. ما أجمل أن نبدأ يومنا ونختمه بحمد الله على كل نفس نتنفسه بلا ألم، وعلى أجساد تقوى على الحركة والعمل.

الصالة كانت تعجّ بصور إنسانية عديدة، من مسن يتكئ على عكازه، إلى طفل يئنّ من وجع، وأم تنظر بقلق إلى صغيرها. كل هذه المشاهد تؤكد أن التحديات الصحية قد تكون اختبارًا، لكنها في ذات الوقت تذكير لنا بأهمية العناية بأنفسنا وبأحبائنا، ودعوة لأن نكون أكثر تعاطفًا مع من يعانون.

لعل هذا الانتظار كان فرصة لي لتقدير نعمة كنت أعدّها أمرًا مسلمًا به، وأن أعود إلى الله بشكر مستمر ودعاء بالصحة والعافية لي وللجميع.

وفي أثناء انتظاري، لفت نظري رجلٌ كبير في السن يجلس في زاوية الصالة، ملامحه تحكي حكايات عمر طويل، وعيناه تحملان صبرًا يفيض بالرجاء. بجانبه شاب في مقتبل العمر، بدا عليه القلق وهو يمسك بيد الرجل بإحكام، كأنه يواسيه أو يستمد منه قوة. لا أعرف ما قصتهما، لكن تلك النظرة بينهما كانت كافية لتثير في داخلي تساؤلات عن رحلة المرض التي جمعتهما في هذه اللحظة.

على الطرف الآخر، رأيت طفلة صغيرة لا تكاد تتجاوز الخامسة، تمسك بدمية باهتة الألوان، وتبتسم رغم أن أنابيب المغذي كانت متصلة بذراعها الصغير. كأنها تقول للعالم: “أنا أقوى من هذا الألم”. في عينيها أمل يفوق أعمارنا، وفي ابتسامتها شجاعة تُلهم كل من يراها.

ووسط هذه المشاهد، سمعت صوتًا خافتًا من الجهة الأخرى، كان رجلاً يتلو آيات من القرآن بصوت عذب، كأنها طوق نجاة لمن حوله. التفتُ لأراه، فإذا هو شاب بالكاد يتنفس، لكنه يتلو بثبات يجعل من حوله أكثر صبرًا وإيمانًا.

هنا أدركت أن صالة الانتظار ليست مجرد مكان للمرضى، بل هي مساحة للحكايات، للأمل، وللصبر. كل وجه فيها يروي قصة، وكل نفس يعبر عنها يحمل رسالة: مهما بلغت المعاناة، هناك قوة تسكن في أعماقنا تدفعنا للاستمرار. لحظتها شعرت أن هذا الانتظار لم يكن عبثًا، بل كان درسًا عظيمًا في فهم معنى الحياة وشكر الله على كل لحظة صحة وعافية.

وفجأة، انفتح باب غرفة الطبيب، وظهر ممرض ينادي اسمًا من بين المراجعين. انتفض رجل يجلس على كرسي متحرك، وكانت زوجته تدفعه بيدها وهي تقول: “الحمد لله.. جاء دورنا أخيرًا.” كان على وجهه تعبير مزيج من القلق والراحة، وكأن ذلك النداء يحمل معه أملًا جديدًا.

استمر المشهد يتغير، وجوه تدخل، وأخرى تغادر، بعضهم بخطوات مثقلة بالتعب، وآخرون بملامح تشع بالارتياح وكأنهم عادوا بحلٍ يخفف من معاناتهم. كانت كل لحظة تمر تزيد من تقديري لهذه الحياة التي نعيشها، بما فيها من تحديات واختبارات.

ثم حدث شيء غريب… في الزاوية البعيدة من الصالة، بدأت همسات ترتفع، حيث بدا أن طفلة صغيرة قد فقدت وعيها فجأة. ارتفع صوت والدتها وهي تنادي على الممرضين، ليهرعوا إليها ويحملوها مسرعين إلى الداخل. توقف كل من في الصالة للحظات، وكأن العالم قد تجمد، وبدأت الدعوات الصامتة تنطلق من القلوب، كلٌ يدعو لها من دون أن يعرفها.

تلك اللحظة كانت كفيلة بأن توقظ داخلي شعورًا مختلفًا، مزيجًا من الامتنان والخوف والتعاطف. أدركت أن الألم مشترك، وأن في كل نفس ألمًا قد نخفيه، وأن التضامن في هذه اللحظات هو أسمى ما نملكه كبشر.

غادرتُ المستشفى بعد فترة، لكن المشاهد بقيت عالقة في ذهني. شعرت وكأنني عشت حيوات متعددة في بضع ساعات. وعدت نفسي أن أكون أكثر وعيًا بنعمة الحياة، أن أقدّر تفاصيلها الصغيرة، وأن أكون سندًا لمن حولي، لأننا جميعًا، بطريقة ما، ننتظر دورنا في مواجهة ما تخبئه لنا الأيام.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights