عزف على أوتار الحزن
ناصر بن خميس السويدي
في أعماق النفس البشرية، تختبئ رغبة لا تنضب في ملامسة كل ما هو طيب وجميل؛ هي فطرة مغروسة فينا منذ ولادتنا. يولد الإنسان وهو محب للجمال، منجذب إلى الخير، متوق للراحة والسلام. لا يحتاج إلى من يعلمه كيف يفرح أو كيف يضحك، فهذه مشاعر تأتيه ببساطة. ولكن الحياة ليست بهذه البساطة، فهي ملغمة بالمسؤوليات والتحديات التي تفرض نفسها عليه. يلتفت حوله فيرى العالم وقد امتلأ بالألم، بالصعوبات، بالفراق الذي لا مفر منه، ويتساءل في أعماقه: لماذا؟
الحزن هنا ليس مجرد شعور عابر، بل هو لغة تتحدث بها الروح حين تجد نفسها في مواجهة واقع لا يلائم فطرتها. نحن نعيش على مسرح الحياة مجبرين على أداء أدوار محددة، متفاعلين مع ظروف لا خيار لنا فيها. قوانين الكون، التي وضعتها الإرادة الإلهية، تفرض نفسها علينا بحكم لا يقبل الاستئناف. هنا، تبدأ رحلة الإنسان مع “المكابدة”، ذلك المصطلح الذي لا يفر من تعريفات قواميس الألم. هي الصراعات اليومية، محاولاته المتكررة للهرب من أحزانه، رغبته في الوصول إلى الطمأنينة رغم كل ما يعترضه.
لكن، هل الحزن هو مجرد عقبة في طريق سعادتنا؟ أم أنه وسيلة لتطهير الروح وصقلها؟ ربما يكون الحزن هو المعلم الأول والأقسى، الذي يكشف لنا هشاشتنا ويذكرنا بأننا، مهما كنا أقوياء، لا زلنا بشراً نحتاج إلى لحظات من البكاء والانكسار لنعود ونرتقي من جديد. ليس من السهل أن تقف على أطلال أحلامك التي انهارت وتبتسم، أو أن تودع من تحبهم وهم يغادرون هذه الحياة إلى الأبد. لكن تلك اللحظات نفسها، رغم قسوتها، تعيد ترتيب أولوياتنا وتساعدنا على إدراك قيمة ما تبقى لنا.
الألم والحزن قد يكونان أيضًا طريقًا يربطنا بالبشر من حولنا، فالحزن مشترك بيننا جميعًا، مهما اختلفت حياتنا وتنوعت تجاربنا. عندما نرى دمعة في عين صديق، نحن لا نرى فقط حزنه، بل نتذكر حزننا الخاص. تلك اللحظة من التعاطف هي التي توحد قلوبنا، وتعيد إلينا شعور الفطرة الجميل الذي بدأنا به حياتنا. نكتشف هنا أن الحزن قد يكون وسيلة للعودة إلى نقاء الروح، إلى بساطتها، حيث نجد السلام وسط كل الفوضى.
في النهاية، على الإنسان أن يتعلم كيف يعزف على أوتار حزنه، كيف يستخرج من الألم لحنًا عذبًا يليق بحياته. ليس مطلوبًا منه أن يكون سعيدًا على الدوام، فهذا ليس طبيعته، ولكن عليه أن يتقبل حزنه كجزء من رحلته، كرفيق لا مفر منه. ربما تكون هذه هي الحكمة الخفية، أن الحزن يربينا على الصبر، يعلمنا قيمة الفرح حين يأتي، ويذكرنا بأننا لسنا سوى أرواح تبحث عن طريق العودة إلى خالقها، محملة بذكريات ولحظات من الحزن والفرح، مختلطة بمزيج من الخير والشر، حتى يتجلى الطيب بوضوح أكبر أمام أعيننا.
تذكر، عزيزي القارئ، أن عزف الحزن ليس دائمًا نشازًا، بل قد يكون لحنًا متفردًا يروي قصة إنسانيتك، ويذكرنا جميعًا بأننا ما زلنا قادرين على الحب، على العطاء، رغم كل شيء.