قصة قصيرة (الجريمة) الجزء الخامس
خلفان بن علي بن خميس الرواحي
بعد معاناة يصل أحمد إلى بيته ويدخل غرفة نومه، ويلقي بجسده المتعب على ذلك السرير الحديدي الذي لا يفارقه الصرير عند أدنى حركة، تعود على ذلك الصوت فقد عاشره سنوات، اليوم كان الصوت مختلفا أكثر إزعاجا عما قبل لم يستطع تحمله فبذل جهدا مضاعفا ليجعل جسمه ثابتا على وضعية واحدة، ولكنه يفشل فالصداع الذي برأسه أثر سقوطه في الحفرة بدأ يشتد عليه، حاول التغلب عليه ولكنه لم يستطع، قرر أن يتصل بأحد أصدقاؤه ليخبره بالأمر، وحيدا يعيش في هذا البيت منذ وفاة والدته منذ فترة طويلة، لم يتزوج وفي الأصل لم يفكر في موضوع الزواج هذا، بصعوبة يتناول الهاتف ويضغط على أزراره، يتحدث بصعوبة فالكلمات تخرج بمعاناة من بين شفتيه ولم تكن بذلك الوضوح حتى يفهمه الجانب الآخر، المهم أنه استطاع أن يطلب المساعدة، يضع الهاتف ويأخذ قنينة الماء التي بجواره ويشرب منها لعله يهدأ قليلا.
لحظات وهناك قادم يدخل على أحمد، فقد كان الباب مفتوحا كالعادة فليس لديه ما يخاف عليه، طرق باب الغرفة ولم يرد عليه، فقال في نفسه: بما أن أحمد ليس معه أحد فمن الأفضل أن أدخل عليه مباشرة، يدفع الباب ويراه ممددا على السرير يتقدم منه محاولا إيقاظه، ولكنه يفشل في ذلك، بصورة هستيرية يتصرف ولا يتمكن من السيطرة على نفسه، يردد بداخله: أظنه فارق الحياة. يأخذ هاتفه ويتصل لأحد معارفه: أهلا… ألحق بي بمنزل أحمد بسرعة، لا تتأخر عليَّ، اسمع مر على أحد يحضر معك، يسكت قليلا ثم يرد من جديد: عندما تصل سوف تعرف الأمر.
ينظر إليه في شفقة ويتمتم داخله بعبارات: من ينظر إلى حال أحمد خارج أجدر هذه الغرفة المتهالكة وحركته ونشاطه يظن أنه يعيش حياة كلها سعادة وهناء، ولكن الواقع مختلف، خلال ذلك يصل صديق محمود ومن معه ويدخلان الغرفة أحدهما: ماذا به أحمد؟ محمود: كما ترى لما مجال للحديث الآن لنحمله إلى السيارة وبعدها إلى المستشفى. تتحرك السيارة والصمت يخيم عليهم فقط نظرات متبادلة لأحاديث مكبوتة ويقطع ذلك الصمت صوت من كان يجلس بجوار أحمد: أظن أحمد قد فارق الحياة، أنه لا يتنفس!! رد عليه محمود: هذا ما كنت أعرفه منذ وصولي إليه، نسأل الله له المغفرة. يصلون المستشفى ويدخل أحمد في غرفة الطوارئ وَتُجْرَى له عمليات الإنعاش القلبي، ولكن دون فائدة.
أحد الأطباء يخرج متجها إلى محمود وأصاحبه ويطلب من محمود الاقتراب منه يخاطبه: إنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله تعالى له الرحمة والمغفرة. محمود. لا حول ولا قوة إلا بالله، كل نفس ذائقة الموت، قدر الله وما شاء فعل، هل عرفتم سبب الوفاة؟ الطبيب: توجد إصابة في رأسه سببت له نزيفا والتأخير في الحضور إلى المستشفى أثر فيه أكثر. محمود: ما نوع الإصابة؟ الطبيب: وجدنا أثر كدمة بمؤخرة الرأس وبعض الرضوض في جسمه قد يكون تعثر وسقط أو أحد أعتدى عليه. محمود: الاحتمال الأول هو الصحيح فقد سقط في أحد الحفر كما سمعت من أهل القرية. الطبيب: عموما الأمر واضح لنا، فقط ننتظر الجهات الرسمية حتى نكمل الإجراءات وبعدها يمكنكم أخذه. محمود: شكرا دكتور نحن هنا ننتظر.
في حركة بطيئة يصل إلى زميليه ويخبرهما بتأكيد وفاة أحمد وبدورهما يقومان بالتواصل مع الأهالي في القرية، حضرت الشرطة وقامت بالإجراءات المعتادة والجلوس مع محمود ومن معه وبعض الأسئلة بعدها يأتي الأذن بنقل الجثمان من المستشفى للقرية. نقل الجثمان وسوف يُوَارَى الثرى ويرحل أحمد عن الدنيا وقد حمل أسراره معه، فلم يمهله العمر كي يحل الكثير من الألغاز كان أهمها علاقة غسان بمسعود. وصل خبر موت أحمد لمسعود فكان فرحا عكس أهل القرية فمسعود كان يدرك شك أحمد فيه وخاصة عندما وجده عند بيت غسان وموته يعني راحة له من القلق الذي كان يساوره من ناحية أحمد.
القرية كلها شاركت في الدفن، كانت لأحمد مكانة لدي الكل، مع تدخله في كل شيء كان محبوبا من أهل قريته، عاد الجميع إلى بيوتهم إلا غسان فقد بدأ الناس يلاحظون عليه شيئا من التغيير حتى أن علاقته مع زوجته عبير والتي كانت تلح عليه كثيرا في سؤاله عن علاقته بذلك الرجل الذي جاء يسأل عنه، في كل مرة كان يتجاهل سؤالها ولا يرد عليها، وأيضا ذلك الاتصال من الشخص المجهول الذي لا تعرفه هي ما علاقته به ولماذا اتصل بها هي ولم يتصل به مباشرة، كل هذه الأمور جعلت العلاقة بين غسان وزوجته متوترة لذا كان لا يرجع إلى البيت إلا متأخرا هروبا من أسئلة عبير وهذا الهروب زاد شكوكها فيه.
الشرطة مازالت تبحث عن حل لقضية السيارة والجريمة التي حدثت بها مع أن أهل القرية بدأوا في النسيان لأن الأمر لا يعنيهم، الملازم قيس جميع بعض خيوط القضية ومنها سينطلق للوصول للجناة، فقد توصلت الشرطة إلى هوية الشخص الذي كان في السيارة كما عرفت من أين هو، وتواصل الملازم قيس مع ذويه وأخبرهم بالأمر وقد أحس بأن الأهل غير مبالين بالموضوع حتى أنهم لم يسألوا متى يستلموه منهم، وهذا الأمر أدخل في نفسه الكثير من الشكوك.
التحقيقات مستمرة والشرطة مازالت متحفظة على الجثة، وحتى يطلع الملازم قيس كل المستجدات دخل على الضابط: أهلا سيدي يرد الضابط التحية لقيس ويسأله: ما هي آخر الأخبار، ينظر إليه، لقد أخذت القضية وقتا طويلا لم نتعود عليه من قبل. يحني قيس جسده للأمام وكأنه يقترب من الضابط: سيدي هذه القضية معقدة وفيها كثير من الإشكاليات والأمور المترابطة ونحن نبحث في أكثر من اتجاه، وبإذن الله تعالى سنصل قريبا إلى الجاني. يقف الضابط من كرسيه: طيب، إلى الآن، ما الجديد لديك؟ يجلس الضابط أمام قيس ليستمع إليه بتركيز أكبر، سيدي، من خلال عمليات التحري عن صاحب الجثة، وبالرجوع للسجلات في الجهات الأمنية وتوصلنا إلى شيء وهو أنه من أصحاب السوابق، كان ذلك رد الملازم قيس وهنا استغرب الضابط وسأله قيس بدهشة: ماذا تقصد أنه من أصحاب السوابق؟ يرفع قيس ملفا كان بيده ويسلمه للضابط وأثناء ذلك يقول له: سيدي هذا الملف به كل القضايا التي أدين بها وهي مختلفة بين سكر وتعاطي وسرقة واعتداء على الآخرين. الضابط: كل هذه الجنايات قام بها ذلك الرجل. الملازم قيس: نعم سيدي، لذا دائرة المشتبه بهم كبيرة، لأن علاقاته مع المشبوهين واسعة ولابد من حصرها والجلوس مع أغلبهم. الضابط: بارك الله جهودكم وبإذن الله سنحل هذه القضية.
أثناء حديثهما أحد من الخارج يطرق الباب مستأذنا بالدخول عليهما، يدخل شرطي بعد أن أذن له الضابط ويؤدي التحية: سيدي، مخاطبا الملازم قيس، لدينا رجل يقول بأن لديه معلومات حول القضية ورفض الإدلاء بها إلا لك. يستأذن الملازم قيس من الضابط للخروج ومقابلة ذلك الرجل لمعرفة ما لديه من معلومات فربما يكشف أمورا كانت غائبة عنهم.
يدخل الملازم قيس غرفة التحقيقات ويسلم في البداية على الرجل الذي كان جالسا على أحد الكراسي الجانبية وتظهر على ملامح شيء من التردد والخوف مع الارتباك، فطن الملازم قيس لذلك ولم يكلمه مباشرة وإنما جلس على كرسي بعيد عنه قليلا ليدخل إلى نفسه الطمأنينة والراحة وطلب له كوبا من العصير ليشرب، ذلك الأمر ساعد الرجل بالإحساس بالراحة والاسترخاء وظهر ذلك عليه فقد وضح على وجهه وتغيرت ملامحه. تحرك الملازم من مكانه وجلس قريبا من الرجل وبصوت هادئ قال له: تفضل، وصل إلى أن لديك معلومات حول حادثة السيارة. بصوت خافت متردد وخائف يرد عليه: نعم سيدي. الملازم قيس: تفضل أسمعك، يرجع ظهر للخلف حتى يعطي الرجل الراحة في الحديث. كان الرجل يتكلم والملازم يستمع إليه بإنصات، أحيانا يعلق على كلامه ومرات يتداخل بسؤال، حديث الرجل كان طويلا ومتشعبا والكثير منه لا يرتبط بالقضية الأساسية وإنما لها علاقة بالرجل الذي كان بالسيارة أنهى الرجل حديثه فسأله الملازم: هل لديك أقوال أخرى تريد إضافتها؟ رد الرجل: كل الذي أعرفه ورغبت في نقله لكم قلته. الملازم: شكرا لك، ونحن نقدر مبادرتك في تزويدنا بكل هذه المعلومات، ولكن عذرا لم تضف لنا شيئا كل ما قلته نحن نعرفه مسبقا. الرجل: هناك أمر قد يكون مفيدا. ينهض الملازم من مكانه وباهتمام يقول له: ما هو؟ الرجل: كان في حياة هذا الرجل سر، وهذا السر هو الذي كان يدفعه لأعمال السيئة وكأنه يعاقب نفسه. الملازم: ماذا يكون ذلك السر؟ الرجل: لا أعرف، أحيانا كان يرغب في الحديث عنه، لكنه يتراجع ثم ينسحب من المكان. هنا يمد الملازم قيس للرجل شاكرا له تعاونه مع جهاز الشرطة ومودعا له: يمكنك الذهاب وفي حالة احتجنا لك سوف نتواصل معك، مع السلامة. هنا يقول الملازم قيس في نفسه: هل ذلك السر له علاقة بالكلام الذي نقله لنا أحمد وشكوكه.