سيكولوجية الجريمة (2)
د. سعود ساطي السويهري
أخصائي أول نفسي
في السطور التالية نتعرف على البناء النفسي للجاني ودوافع الجريمة، بعدما تعرفنا في المقالة السابقة على الأسئلة والأجوبة حول الجريمة وحدوثها، وهنا سيدور الحديث حول الديناميات الشخصية للفرد مرتكب الجريمة، وهل هناك تشابه أم اختلاف في شخصيات المجرمين ومرتكبي الجرائم على اختلاف أنماطها والعمر الذي تزداد فيه نسبة الجريمة .
تشير بعض الدراسات النفسية إلى أن الجريمة تنتشر بين النشء ومتوسطي العمر بوجه خاص، حيث تبين أن معظم المجرمين في الفئة العمرية بين 20- 40 سنة وتقل هذه النسبة تدريجيا عند الوصول لسن 60 سنة، بينما يرتفع معدل الجرائم في المدن المزدحمة وفي مناطق الجذب العمراني ذات الكثافة السكانية العالية. ويستنبط مما سبق أن فترة الشباب أصعب فترات ارتكاب الجرائم، وفي هذا مدلول على أن البناء النفسي للشباب أكثر من يتأثر بالجريمة؛ نتيجة للعديد من الضغوطات والمتطلبات.
ولعل أسلوب التنشئة التي تربى عليها الفرد السبب الأول المحدد لسلوك الانحراف والجريمة من عدمه، حيث يهتم أنصار المدرسة النفسية في تفسير السلوك الإجرامي عن طريق ربطه بالاضطرابات السلوكية، إضافة إلى متغيرات أخرى نفسية كالإحباط والكبت والتسلط في أثناء التنشئة الاجتماعية والأمراض النفسية، ومعنى ذلك أن هناك علاقة بين السلوك السوي والسلوك غير السوي، والحالة الصحية والنفسية للفرد، ويتداخل التغير الاجتماعي والاقتصادي السريع الذي طرأ على المجتمعات، وكان تأثيره خطيرًا على الأفراد والمجتمعات، فمن ناحية كان هذا التغير يفوق الإمكانات النفسية والاقتصادية للأفراد؛ مما انعكس أثره على تقليل قدرة الفرد والمجتمع على التعامل مع مواقف الانعصاب المختلفة الناشئة عن تلك التغيرات ومن ثم زادت المشاكل النفسية للفرد وزادت الاضطرابات النفسية والعقلية والجنح والجريمة.
ولعل هذا ما يفسر أن فئات متعددة من الشباب من يستطيع أن يتغلب على ظروفه السيئة ولا ينخرط في السلوك الإجرامي، وعلى الجانب الآخر هناك مجموعة أخرى تتجه إلى الأعمال الإجرامية بشكل مستمر، وفي وقت مبكر من حياتها، فهم يرتكبون مخالفات أكثر تكرارًا وخطورة، ويستمرون في هذه المخالفات القانونية طوال حياتهم. ومن هذ المنطلق يمكن القول بأن البناء النفسي لمرتكب الجريمة والإقدام عليها له جذور متغلغلة، وقد تكون خاملة، ولا يوقظها سوى التحديات المستقبلية والضغوط النفسية، بمعنى أنه قد يكون لدى هذا الفرد استعدادا لممارسة الجريمة والإقبال نحوها، وقد تتولد الجريمة لحظيا تبعا لموقف محبط أو وجود عامل إغراء أو ضعف أو يمس الشرف والعرض أو خلافه، ولهذا يقال أن تقرير الصحة النفسية وسلامة القوى العقلية من يحدد المسؤولية الجنائية والعفو أو التخفيف من عدمه، وفي ذلك دلالة على أن الجانب النفسي لا يمكن الاستغناء عنه، فهو بمثابة شريك أصيل في الحكم والبراءة، ومن الإنصاف أيضا دراسة البناء النفسي وديناميات الشخصية ودراسة الحالة من قبل المتخصصين لتفسير أسباب الجريمة وتنفيذها، ومن المعلوم أن المريض النفسي والعقلي يُرفع عنهما التكليف والحكم والمحاسبة، وإيداعهم في مكانهم المناسب؛ حرصا على سلامتهما وسلامة المحيطين والمجتمع ككل.
ولذا كان البناء النفسي من القوى الدينامية المحددة والمتداخلة والمتفاعلة معًا، والتي تؤثر في بعضها ، وتنشأ من خبرات الإشباع والإحباط التي يتعرض لها الفرد، مع مجموعة من الخصائص والسمات النفسية التي تميز الفرد في تفاعله مع المواقف المختلفة، والقدرة على التوازن وضبط النفس من عدمها، وكذلك يوضح البناء النفسي مدى استثارة الفرد وعدم الهدوء والاتزان، وفقدان القدرة أيضا على كظم الغيظ، ومن هذا المنطلق تبدأ الجرائم فتُهدَد النفوس والأرواح، وتضيع المجتمعات.
ومن هذا المنطلق فإنه من الضرورة بمكان؛ وبعد التغطية الشاملة لموضوع الجريمة، ضرورة الوصول لمعرفة الوقاية والحلول لهذا الموضوع الذي يهدد المجتمعات ويزلزل أركانها؛ ولهذا سيتم التعرف في المقالة (الثالثة والأخيرة) على سبل الوقاية وأنماط الحلول؛ تفاديا لحدوث الجرائم، وقطع دابرها؛ أملا في العيش الهادئ والآمن.