نسخة مزوّرة من الحياة

طه جمعه الشرنوبي
في زوايا الحياة المتشابهة، حيث تتكرّر الأيام بتفاصيل لا تثير العجب، وبين وجوه تتبادل الابتسامات المصطنعة والعبارات المعلّبة، يخيّل إلينا أننا نعيش، بينما ما نفعله في الحقيقة هو محاكاة متقنة لشيء ما كان يُفترض أن يكون الحياة.
لقد باتت الحياة — أو ما نُطلق عليه هذا الاسم — مُجرّد نسخة مزوّرة من الأصل، مزخرفة المظهر، لكنها فارغة الجوهر. كلوحة مُقلَّدة، تخدع من لا يُمعن النظر، وتُبهج من لا يتذوّق المعنى، لكنها تظلّ، في النهاية، بلا روح.
نستيقظ كل يوم في نفس التوقيت، لا بفعل شغف داخلي أو رغبة في لقاء جديد مع العالم، بل لأن منبّه الهاتف قرر أن يُصدر صوته. نغسل وجوهنا، نرتدي ملابس لا تعبّر عن أرواحنا، نلتهم إفطارًا لا نذوقه فعلًا، ثم نندمج في حركة يومية تُشبه سباقًا لا نهاية له.
الطريق إلى العمل مزدحم، ليس فقط بالسيارات، بل بالوجوه المستسلمة، بالعقول المُنهَكة، وبالقلوب التي فقدت شهيّتها للحياة. نصل إلى المكاتب، نمارس أدوارًا مكررة كأننا آلات، نُجيد التفاعل السطحي، نُجامل المدير، ونتجنّب الحقيقة، ونضحك على نكتة لا تضحك.
في المساء، نعود لنكرّر طقوس الليل: هاتف في اليد، شاشة مضيئة، محتوى لا يضيف، وضحك على مقاطع قصيرة لا تُضحكنا حقًا. ثم نغفو، لا على وسادة ناعمة، بل على جُرح الروح الصامت، ونسلّم أنفسنا إلى نوم لا يشبه الراحة.
في العلاقات ما أكثر من نُطلق عليهم “أصدقاء”، وما أقلّ الصدق في تلك العلاقات. نقضي ساعات نُراسل بعضنا، نُعلّق على منشورات، نرسل رموزًا تعبيرية، لكن حين نحتاج لصوت حقيقي، لكتف حقيقي، نجد أنفسنا وحيدين.
لقد أصبحت العلاقات الاجتماعية نسخة مزوّرة من الودّ الإنساني. نُظهر الحماس في اللقاءات، ونقول “وحشتني جدًا” ونحن لا نشعر بالاشتياق، نُصفّق بنفاق، ونُجامِل دون شعور. نتحاشى المصارحة، ونخشى العُري العاطفي، لأننا تعلمنا أن الصدق يُخيف.
حتى الحب، أكثر المشاعر صفاءً، لم ينجُ من التزوير. صار كثيرون يحبّون الصورة، لا الروح. يعشقون ما يُعرض في الواجهة، لا ما تخبّئه الأرواح خلف نوافذها المغلقة. نختار الشريك بناءً على معيار “ماذا سيقول الناس؟”، لا بناءً على “ماذا تشعر قلوبنا؟”.
على الورق نملأ السيرة الذاتية بعبارات منمقة: “طموح”، “قادر على العمل تحت الضغط”، “محبّ للتعلّم”. نُجري مقابلات عمل ونُجيد تمثيل دور الشخص المثالي. نرتدي أقنعة من الثقة بالنفس، بينما دواخلنا ترتجف. نُزيّن حساباتنا على مواقع التواصل بلقطات مُنتقاة بعناية، وكأننا نعيش فيلمًا سعيدًا لا يعرف الحزن.
لكن حين نُطفئ الشاشة، ونعود إلى ذواتنا، نكتشف أن الواقع بلا فلاتر، قاسٍ وجاف، وأننا لا نعيش الحياة بل نُقلّدها.
أين ذهبت نسخة الحياة الأصلية؟ كانت هناك، ذات يوم. كانت في الضحكة الطفولية التي لا تخجل، في السير حافي القدمين، في رسائل الورق المكتوبة بخطٍّ مهتزّ، في الغناء بصوتٍ مبحوح، في لحظة صمتٍ بين قلبين، في البكاء دون خجل، وفي الأمل دون حسابات.
لكننا، بمرور الوقت، استبدلنا تلك النسخة الحقيقية بأخرى مزوّرة، أكثر أناقة لكنها أقل حياة. صار كل شيء يُقاس بالنتيجة، لا بالشعور. نركض خلف المال، لا خلف المعنى. نُخطّط للمستقبل ولا نعيشه حين يأتي. نحسب عدد الإنجازات، ولا نحسب عدد اللحظات التي شعرنا فيها بالسعادة الصافية.
لا يُمكننا أن نُبرّئ أنفسنا. نحن جميعًا ساهمنا، بوعي أو دون وعي، في صناعة هذه النسخة المزوّرة. حين قبلنا أن نسير مع التيار دون اعتراض، حين فضّلنا الراحة على الصدق، حين قرّرنا أن نُرضي الجميع حتى لو خسرنا أنفسنا.
وربما كان المجتمع شريكًا في الجريمة، حين علّمنا أن نُخفي مشاعرنا، أن نُظهر النجاح حتى لو لم نذقه، أن نُطارد ما يُبهر لا ما يُرضي. حين أقنعونا أن السعادة في الشراء، والنجاح في المظاهر، والقيمة في الأرقام.
العودة ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة. تبدأ برفض التزييف، وبالبحث عن الحقيقة في تفاصيل الحياة الصغيرة. أن نبدأ صباحنا بسؤال: “ما الذي يجعلني حيًا فعلًا؟” لا “ما الذي يُفترض أن أفعله؟”.
نحتاج أن نعيد اكتشاف معنى البساطة، أن نتذوّق الشاي ببطء، أن نسير في الشارع دون هاتف، أن نُحادث الغرباء دون خوف، أن نحتضن أحبابنا دون خجل.
نحتاج أن نُعيد ترميم علاقتنا بأنفسنا، أن نصغي إلى صوتنا الداخلي، حتى لو خالف الجميع. أن نكتب ما نشعر به لا ما يُعجب القارئ. أن نحب دون شروط، وأن نحزن دون إنكار.
إنّ أجمل اللحظات لا تحتاج إلى كاميرا، ولا يمكن التعبير عنها في منشور. لحظة ضحك صادق مع صديق، لحظة تأمّل أمام الغروب، لحظة صمت بين دفتي كتاب، أو حتى لحظة بكاء تحرّرك من ثقلٍ قديم.
النسخة الحقيقية من الحياة لا تحتاج إلى إنجازات عظيمة، بل إلى صدق. إلى أن نعيش اللحظة كما هي، لا كما يُفترض أن نعيشها. أن نتخلّى عن الأقنعة، عن “البريستيج”، عن اللهاث خلف الكمال، ونقبل أن نكون بشرًا، بخوفنا وقلقنا وفرحنا وارتباكنا.
أن تعيش الحياة الحقيقية لا يعني أن تُنكر واقعك، بل أن تراه بوضوح، وأن تختار أن تكون صادقًا مع نفسك فيه. أن تختار الشعور على التمثيل، والعمق على السطح، والروح على الصورة.
ربما لن تُعجب نسختك الحقيقية الجميع، وربما لن تُبهرهم، لكنها ستكون لك. صادقة، نقيّة، لا مزوّرة.
وفي عالم امتلأ بالصور والنسخ والتمثيل، أن تحيا حقيقتك… هو أعظم إنجاز.