تحتفل صحيفة النبأ الإلكترونية بالسنة السادسة لتأسيسها
Adsense
مقالات صحفية

جريمة وعسس- الجزء الرابع عشر

خميس بن محسن البادي

الجزء السابق تضمن حديث “شهم” أمام رئيس جلسة التقاضي في قضية “همام” وزوجه، الحديث الذي وجد صداه لدى فضيلة الشيخ القاضي والحضور، وبإنهاء “شهم” لحديثه، قام “همام” من على كرسيه متجهاً نحوه-“شهم”- الذي كان ما يزال على منصة الشهود.

حظيت كلمة “شهم” المأثورة ورباطة جأشه وفصاحته بالتقدير والإعجاب، بل وشكره كذلك القاضي على تعاونه هذا مع القضاء في مكافحة الجريمة وصراحته مما هو عليه من امتعاض من مثل ما أقدم عليه “فهم” ورفيقيه من جرم، وبعفوية ملؤها التقدير والاحترام تقدم إليه “همام” وقبّله على جبينه، وانحنى يقبل يده؛ لكنه منعه وأكد له بأن هذا واجب كل شخص يحب إشاعة العدل والحق ونصرة المظلوم، فاستأذن “همام” رئيس الجلسة ليقول بضع كلمات تعقيباً على ما قاله “شهم”، وحين سمح له القاضي بذلك أخذ موقعة على المنصة وتحدث قائلاً: “سيدي القاضي إني لأطلب إلى هذا الرجل الطيب -وهو يشير إلى “شهم”- أن لا يأخذ عليّ سوء الظن الذي ظننته به؛ فقد كان خلال فترة التحقيق وحتى قبل موعد هذا اليوم يلتقي بي بين الحين والآخر، ما جعلني أشك في تصرفه من أنه يسعى إلى التأثير عليّ لصالح ابنه، والذي أدركته الآن بأن تصرفه ذاك ما هو إلا محاولته التخفيف عليّ وزوجي مما تعرضنا له، واليوم وأمام فضيلتكم والحضور أتقدم إليه بأسفي من سوء ما ظننته به، معتذراً منه عن ذلك أمامكم جميعاً؛ فليسامحني ويعذر لي خطئي بحق شخصه العظيم وعطائه الكريم”، وأنهى “همام” حديثه، فعقب عليه “شهم” بأن اعتذاره مقبول وأن أي أحد مكانه لا بد وأن تراوده ذات الوساوس في وقته العصيب الذي مر به. ثم توجه “شهم” نحو “همام”، ووضع كلتا يديه على كتفي “همام” معتذراً منه عما سببه له ابنه من مأساة، وفي هذه اللحظة احتضن كل منهما الآخر في لفتة حانية من كليهما للآخر دليل زوال أي حقد أو ضغينة من قلب أي منهما، ثم أخذ كل منهما موقعه في قاعة المحاكمة.

وأثناء استمرار المداولة؛ اعترض محامي الدفاع على ما اعتبره تأجيج من “شهم” وإساءة لشخوص موكليه مطالباً برصد ذلك ضده لصالح “فهم” وزميليه، ولكن القاضي رد عليه برفض الاعتراض، مؤكداً له بأنه لا ضير في ذلك وأن الرجل أوضح الكثير مما شأنه أن تستنير به المحكمة في القضية، كما أنه أكثر ما تطرق إليه هو ما يخص إبنه وله الحق في ذلك، وانتهت الجلسة الأولى من المحاكمة بالتأجيل، وغادر كلاً في شأنه، ولم يعد “همام” من الممترين بعد الذي سمعه ولمسه من “شهم” وأمام القاضي -رئيس الجلسة- الذي استمع بذهن حاضر لكل كلمة قالها “شهم”، وعاتبت “هيام” زوجها عتب يشوبه الحب والدلال والإعجاب والشكر والتقدير على وقفته معها رغم ما تعرضت له من “فهم” وزميليه. عاتبته كونه جعلها تميل نحوه لما ظنه ب”شهم” من سوء نتيجة غموض تصرفه معهما فيما سبق؛ والذي أظهر خبء ذلك على نقيض ما حسباه عليه من سوء نيته نحوهما، بدليل ما أقدم عليه من نبل وشهامة وكرم في المحكمة لصالحهما، والذي بدوره أكد لها حُسن تعامل ونيات “سهم” ووالديه واطمئنانه لهم وتأكده من وقوفهم إلى جانبهما ضد ابنهم الذي اعتدى ورفيقيْه عليهما، مؤكداً لها أنه ليس لديه أدنى شك بعد الذي قاله “شهم” أمام القاضي في موضوع القضية.

أما وفي المنزل حيث “سهم” وأبويه؛ فقد أخذ “سهم” موضعاً للجلوس بجانب أبيه، حيث تموضعت إلى جانبه الآخر “نغم” وطلب إليه أن يغفر له هو الآخر سوء ظنه به من موقفه بقضية “همام” وزوجه، مشيداً أمام أمه بالكلمة المرتجلة التي قالها أبيه في قاعة المحكمة، فيما امتدحت الأم كلاهما وهي تداعب بأصابع يدها خصلات من شعر مؤخرة رأس “شهم”، فتنهدت تنهيدة ألم على “فهم”، متمنية لو كان بينهم سوياً مستقيماً، فقدم لها زوجها مواساته مؤكداً أن الله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل، مضيفاً أنه وبإذن الله تعالى سيكون لهما خيراً منه، جلت قدرته على ما ابتلاهما به في ابنهما فهم، فبادر “سهم” أبيه بسؤاله عن صحة تحليل “همام” لسبب غموض تصرفه معه من القضية خلال الأيام الماضية، فرد عليه بأن أي إنسان يتعرض لموقف مؤلم هو بحاجة إلى أن يجد من يقف بجانبه، صحيح يا أبي ولكن كان تصرفك يشوبه الشك؛ هكذا رد سهم على أبيه الذي جاوبه، لم أقصد أن يرتاب أي كان في مواساتي ل”همام” وزوجه، وانتهت جلسة العائلة على ذلك وبتقبيل “سهم” رأسي والديه ليقوم كل منهم لشأنه، أما “فهم” وهو في غرفته بالسجن ها هو في حالة من الحزن واليأس، وتأثر لما صدر ضده من والده في المحكمة ليس لأنه وقف ضده؛ بل لأن “فهم” نفسه عاد بذاكرته إلى الوراء يستذكر الأيام الخوالي حين كان وأخيه “سهم” ووالديهما في وئام وحب وسلام وتفاهم وانسجام، لتتبدل حياته من غير مقدمات منذ بداية سنته الأولى بالجامعة التي فصل منها خلال سنتين ينقص أو يزيد قليلاً، وأصبح وفقاً لما عليه هو الآن، وعبثاً حاول رفيقيْه مواساته وتخفيف حزنه عنه وقنوطه من الحال التي صار إليها، ولكنه فجأة انقلب عليهما يكيل لهما الاتهامات ويلومهما من أنهما ومن كان معهما السبب في ما هو عليه وما أوصلوه إليه وهو يلوم نفسه الآن؛ لأنه سار على نهجهم هذا وتبع مسلكهم الجرمي الذي أوصلهم إلى خلف جدران وحديد السجون بنهاية الأمر، ضارباً لهما المثل بأخيه “سهم” ضابط الشرطة الخلوق الذي التحق بالعمل دون حتى أن يلتحق بالجامعة وأصبح في منصب وظيفي جيد وصاحب تعليم جامعي عالٍ، وله احترامه وتقديره بين أقرانه والآخرين، ولكن ليس لندمه هذا شفيع دنيوي فقد فاته الأوان، فأضاع مستقبله الذي كان وذهب أدراج الرياح، وسنوات عدة أخرى مقبلة ستأخذ من عمره وهو حبيس جدران السجن، واحتدم الخلاف واشتد النقاش وتعالت الأصوات واشتبك الأخلاء؛ ليحل العداء بين الأصدقاء بعد رفقة سيئة السمعة دامت لسنوات، حيث وفي لحظة غضب لا شعورية دفع “فهم” ب”نجم” بيديه للوراء فارتطم جسده بالحائط فتدخل “تيم” ليحول دون استمرار ذلك بينهما؛ فكان نصيبه هو الآخر ما لقيه زميله، وهنا ثار الإثنان غضباً وانهالا على “فهم” بالضرب والركل حتى تدخل رجال الشرطة القائمين على أعمال السجن وحراسته، وكان “فهم” قد نال حينها نصيبه من الإيذاء البدني؛ مما دعا الأمر بنقله إلى المشفى للعلاج ليتقرر تنويمه هناك بعد أن تأكد للطبيب وجود كسر بأحد أضلاعه وبعض الإصابات والكدمات بين النازفة والمتورمة، في حين كان لا بد من مساءلة “نجم وتيم” عما اقترفاه في حق زميلهما من خلال رصد الموضوع بقضية إيذاء بدني، وكان لا مفر لهما من عدم الاعتراف أو نفي ما نسب إليهما لثبوت ذلك عليهما؛ حيث اعترفا بما أقدما عليه في حق “فهم” مع طرحهما التبريرات التي أدت بهما إلى الاعتداء عليه نتيجة النقاش الذي دار بينهم وأدى إلى سوء الفهم والخلاف والتشاجر، ولكن هل سيشفع لهما ذلك؟ لا سيما إذا ما استمر “فهم” بمطالبة حقه الشخصي منهما، وفي اليوم التالي ومن على مهاده بالمشفى ومن خلال محضر الإفادة الذي تم أخذه عليه من قبل رجل الشرطة المكلف بذلك، أكد “فهم” مطالبته بحقه من “نجم وتيّم”؛ وبذلك استكملت إجراءات الحادثة في الوقت الذي كان فيه “فهم” لا يزال يرقد في المشفى.

ويتقرر خلال هذه الفترة استدعاء الثلاثة للجلسة الثانية من التقاضي في قضية “همام وهيام” ولكن دون تمكن “فهم” هذه المرة من الحضور لظروف حالته الصحية، فتم إيضاح ذلك لرئيس الجلسة الذي استمع لبعض الآراء وأصدر أمره بالتأجيل مجدداً لأسباب عدة منها وفي مقدمتها عدم حضور “فهم” للجلسة، ومن جانب آخر اتفق “شهم”!وزوجه وابنهما “سهم” من غير مقدمات على زيارة “فهم” في المشفى حيث لم يكن أحداً قد زاره قط من قبل منذ أن عرف طريق الجريمة والسجون، واليوم وقد تم تنويمه ها هما والديه وأخيه يعودوه وهو مريضاً حيث وجدوه على سريره بحراسة أمنية، فهو نزيل السجن وبحكم قضائي في قضايا مدان بها؛ وبذلك لا بد من إقامة الحراسة عليه، فاستأذن أهله حُرّاسه لزيارته فسمحوا لهم ودخلوا عليه وتبادلوا معه تحية عابرة، ولكن الموقف الصلف الذي كان عليه “فهم” كان مختلفاً جداً، فقد صار مذعناً ولسان حاله وفي هذه اللحظة بالذات يقول إني في شوقٍ إلى أن أدفن رأسي في أحضانكم جميعاً أسفاً وندماً على ما جنيته على نفسي في ماضي الأيام والأشهر والسنين؛ لعلي أنسى بعض مما أنا فيه، ورغم إذعانه ورغبته بشحن ذاته بطاقة عاطفية منهم والتي افتقدها منذ سنوات إلا أنه أسر ذلك في نفسه ولم يبده لأهله ظناً منه بعدم وجود مكانة له بينهم، فآثر الصمت والعبرة تكاد تأخذ منه مأخذها، ولكنه تحامل على نفسه ولاذ بالصمت في اللحظة التي سألوه فيها إن كان محتاجاً لبعض المقتنيات الشخصية قبل مغادرتهم؛ فأجابهم بعدم وجود ما ينقصه فاستأذنوه بالرحيل، وقد دعاه والديه إلى أن يتوب إلى الله تعالى توبة نصوحاً صادقة خالصة له جلت قدرته وأن يتقرب إلى الله تعالى بالدعاء والاستغفار والعبادات آناء الليل وأطراف النهار، وكانت هذه آخر الكلمات التي سمعها من أمه وأبيه قبل مغادرتهم له، فهل لهذه الدعوة من طريق إلى قلب “فهم”؟.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights