تحتفل صحيفة النبأ الإلكترونية بالسنة السادسة لتأسيسها
Adsense
مقالات صحفية

السينما العُمانية تأصيل للهوية في واقع متغير

فيلم "البوم" للمخرج العُماني خالد الزدجالي نموذجا

سعاد زريبي
ناقدة سينمائية

في عالم مبني على التعدد الثقافي والحضاري والتبدل السريع في العادات المجتمعية والثقافية يعيش مفهوم الهوية مرحلة صعبة تصل حد التشكيك في القيمة الثقافية والفكرية للمفهوم، لكن يبقى لهذا المفهوم فرصة أخرى من أجل أن يعبر عن ذاته وعن قيمته الثقافية والأخلاقية في حياة الشعوب من خلال الصورة ومن خلال الفنون التي على غير مسارات التوحد في السلوكيات والأذواق في العصر التقني والصناعي الحالي؛ فهي تسعى إلى خلق ثراء فكري وروحي وثقافي لتصبح من خلال الآليات الإبداعية المختلفة نمطا خاصا من الوجود في العالم؛ لتقدم كل صورة فنية حقيقة شعب وصورة ثقافة تتمتع بخصوصيتها الثقافية والفكرية والروحية والحضارية. لقد أصبحت السينما اليوم من أبرز الفنون تعبيرا عن الخصوصيات الثقافية للشعوب، ورافدا من أجل التعريف بالثراء التاريخ اللامادي الإنساني؛ لتكون المهرجانات السينمائية شكلا عال من اللقاء الحضاري بين الشعوب.

تكمن جسارة السينما في كونها فن تقني يعتمد على التقنيات الحديثة في صناعة الفن، وفي كونها فن يغازل مشاعر الجماهير الواسعة وينفتح على كل الأذواق والأفكار والقضايا.

في هذا الإطار من التفكير تبدو السينما العُمانية على وعي شديد بضرورة أن تكون السينما رافدا فكريا وفنيا وإنسانيا للتعبير عن ثقافة الشعب العُماني وارتباطه بقيمه الروحية وثقافته الشعبية.

خالد الزدجالي، المخرج العُماني ونائب رئيس اتحاد الفنانين العرب ومؤسس الجمعية العُمانية للسينما على وعي شديد بمهمته التاريخية في صلب تطوير والسير بالسينما العُمانية نحو العالمية؛ لتكون السينما همزة وصل بين الخصوصية والعالمية، أو الهوية والعالمية. ترتكز نظرة الزدجالي على ضرورة تأصيل مفهوم الهوية العُمانية في أفلامه إيمانا منه أن ثقافة وهوية بلده تستحق هذا الاهتمام من قبل مخرجيها وصناع الأفلام.

يعتبر فيلم “البوم” التحفة الفنية التي مثلت نقطة جوهرية في مسيرة الرجل وفي تاريخ السينما العُمانية الناشئة. أسس الفيلم رؤية خاص للسينما العُمانية التي يجب أن تنغمس في عمق الواقع الاجتماعي وتصنع بمواد فنية من صلب التجربة المعيشية للأفراد. أنجز الزدجالي فيلم “البوم” بالتعاون مع السيناريست المصري الدكتور محمد كامل القليوبي وبطولة صالح زعل وسعود الدرمكي والفنانة فخرية خميس. تدور أحداث الفيلم حول قضية السفن في القرية التي هجرت البحر خوفا من “أبو السلاسل”، وهو عبارة عن وحش أو جني يأكل السفن ولكن في الحقيقة هذه الأزمة ناجمة عن تواطئ أحد تجار القرية مع أحد التجار الأجانب على نهب الثروة السمكية.

اختار المخرج العُماني خالد الزدجالي السينما من أجل العناية بمصادر نفسه وبتاريخ شعبه ومحاسن بلاده الطبيعية. فيلم “البوم” فيلم عُماني في كل تفاصيله موضوعا وشكلا؛ فهو يطرح علاقة المواطن العُماني بأقرب العناصر الطبيعة إلى نفسه -البحر- ويشكل من العلاقة مع البحر أهم قضايا الفيلم، لا مغالاة في القول إن الزدجالي في هذا الفيلم قد جعل من البحر لا ثروة طبيعية فحسب يتمتع بخيراتها أهالي قرية “البوم”؛ بل جعل من تحرير البحر من الخونة وتجار والمافيات إلتزاما فنيا وأخلاقيا ووطنيا.

يحتفي الزدجالي في الفيلم بمفهوم “الداخل” ونقد الانفتاح المطلق على الخارج والمتغير والمتحول؛ فهو يجعل من شخصية الشاب “مساعد” بملابسه العصرية شخصية فكاهية وعرض حركاتها بشكل مثير للضحك، وارتبطت كل المشاهد التي حضر فيها بإنفلات في القول والفعل حركة قيادة السيارة وتسلق حيطان المنزل عند قدومه، فحين بقي المكان من حوله فارغا وبدى كل من حوله في صمت وذهول، فحين احتفى المخرج العُماني بثقافته العُمانية؛ فهو ينتقى أجمل الأغاني والأهازيج العُمانية ورقصات النساء فرحا بخروج “سالم” حيا من البحر، وفي اختيار الديكور والبيوت، واختيار الوجوه النسائية والرجالية وعناية بالملابس وتوظيفها من أجل تكريس ارتباط المواطن بموطنه.

لئن كانت السينما آخر الفنون وارتبطت بتطور التقنية والتكنولوجيا والتي عمل كبار المخرجين العمل بهذه التقنيات من أجل التأثير على المشاهد؛ إلا أننا في هذا الفيلم العُماني لا نجد استعمالا كبيرا للتقنيات المتطورة في الإضاءة أو الديكور أو الملابس أو في صناعة الصورة نفسها في الإخراج؛ فهي صورة بسيطة مشبعة بالدفء الشعبي للمواطن العُماني، تخبر المشاهد بالخفايا الروحية العميقة لأهل القرية: “الهدوء، والتقبل، والتمسك بما يملكون من البحر والقوارب”.

الانزياح عن الطابع الدرامي أو اختيار الحركة السريعة التي تبدو منعدمة في الفيلم حيث الحركة لا تأتي من البحر إلا وهي ذاهبة إليه، لم تنفتح على أماكن خارجية رغم القيود التي يعيشها سكان القرية من تهديدات “أبو السلاسل”. لقد استطاع المخرج خالد الزدجالي من خلال هذه الاختيارات الفنية العناية بمفهوم الهوية العُمانية في السينما، وأشار إلى ضرورة أن تكون السينما رافدا إنسانيا للشعب العُماني، تخبر جمهور السينما العربي والعالمي عن قضايا ومشاغل وحقيقة الهوية الشعبية للمواطن العُماني؛ فهو إنسان مرتبط بموطنه وبهويته الروحية والطبيعية.

يعتبر خالد الزدجالي أن مهمة الفيلم تكمن في قدرته على نقل وإبداع الواقع، وطرح قضاياه؛ فهو قادر على تحوير وجهات النظر، وخلق نقاش حول العلاقات بين أفراد المجتمع ومساءلة أوهامه وشكوكه. يقول الرجل “إذا تطورت الفنون يتطور الشعب، ومن شأن تنمية المواهب والقدرات أن تغير طريقة تفكير الأفراد”. جاب الفيلم “البوم” أكثر من خمسين مهرجان سينمائي عالمي، واستطاع أن يعلن عن قدرة الفنون في كسر الهوة بين الشعوب والثقافات. تسعى أفلام الزدجالي بالأساس إلى تحقيق هدف أساسي؛ وهو العمل بالتراث وتطوير الثقافة والتعريف بالهوية العُمانية، فأفلامه (العرس، المناطحة، أصيل) تخدم هذا الهدف الفني والحضاري في توجهه الفني السينمائي، وهو ما صرح به في إحدى حواراته “كلما سافرت خارج سلطنة عُمان؛ صرت أفكر فيها أكثر، وصرت أكثر حماسا للسينما، وكلما عدت واجهت إحباطا كبيرا لم ينجح في إبعادي عنها”. فمثلما هناك روما في أفلام “فريدريكو فيلليني”، وفرنسا في أفلام “غودار”، وروسيا في أفلام “تاركوفسكي”، واليابان في أفلام “أوزو”، وإيران في أفلام “عباس كياروستامي”، ومصر في أفلام “يوسف شاهين”؛ هناك سلطنة عُمان وشعبها في أفلام خالد الزدجالي، وأفلام التي تشرف على إنتاجها الجمعية العُمانية للسينما التي تسعى إلى توظيف التراث العُماني والثقافة الشعبية للبلاد كرافد ثقافي وحضاري يسعى إلى الانتشار عالميا؛ وهو هدف تقترب السينما العُمانية من تحقيقه في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ مع بداية التسريع في الإنتاج والمشاركة في المهرجانات السينمائية العربية والدولية، ومع صعود فئة شابة جديدة حازت ثقة لجان المهرجانات السينمائية وحظيت باستحسانهم.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights