2024
Adsense
مقالات صحفية

همسات الليل وسكينة الفجر .. (1)

  ناصر بن خميس السويدي

كانت ليلة قمراء، وكانت الأضواء تختلط ببعضها بين السماء والأرض، فتصنع مشهداً طبيعياً في رِقَّتِه وجماله في الجو من حولنا، كانت أزهار الياسمين والليمون تتمايل في الهواء، مخلوطةً بعبير أزهار النرجس الفواح المنبعث من باحات المنازل العمانية الواسعة، كانت هذه الروائح العطرة تضفي على الكون سعادةً خفية، تبعث في القلب رعشة خفيفة، خاصةً تلك القلوب التي أنهكها السفر الطويل بحثًا عن السعادة الضائعة. سعادةٌ تُشعرنا وكأننا قد وجدنا ضالتنا في هذا المكان الذي يمزج بين الطبيعة والإنسان في انسجام تام، كأنما همس الكون بأسراره لنا ونحن بين دفء الذكريات وعذوبة الحاضر.

وكنا نعيش تلك اللحظات وكأن الزمن قد توقف، لا صوت يعلو على همس الرياح الخفيفة وهي تحمل رائحة الأرض بعد أول قطرات الندى، بدا وكأن كل شيء في الكون يتآمر ليمنحنا طمأنينة عميقة، وكأن المسافات التي قطعناها في رحلتنا لم تكن إلا جسورًا تقودنا إلى هذا اللقاء بيننا وبين السكينة.

وعلى أطراف السماء، كانت النجوم تضيء كالشموع الصغيرة، تزيد الليل روعة وبهاء. لم تكن تلك اللحظة مجرد استراحة من تعب الطريق، بل كانت أشبه بوعدٍ خفيٍّ بأن السعادة ليست شيئًا نبحث عنه في أماكن بعيدة، بل هي كامنة في البساطة، في لحظات كهذه، حيث تمتزج الطبيعة بالأرواح المتعبة فتجد في حضنها الراحة المنشودة.

جلسنا هناك، نراقب امتزاج الأضواء والظلال، وأحسسنا وكأننا جزء من هذا المشهد، مجرد كائنات صغيرة في حضن الطبيعة، نتأمل ونشعر، ونفكر في معنى السعادة الحقيقية التي طالما سعينا وراءها.

وفي تلك اللحظة، شعرنا وكأننا قد تلامسنا مع سر الكون العميق، ذلك السر الذي يكمن في البساطة والانسجام مع ما حولنا، لم نكن بحاجة إلى كلمات، فقد كانت النظرات كافية لتحكي عن عمق المشاعر التي ارتسمت في قلوبنا، كأن الهواء نفسه يتنفس سكينة وسلام، ينقل إلينا همسات الطبيعة التي لم نكن ندركها في صخب الحياة.

وبينما كانت الساعات تمر بهدوء، وكأنها تتهادى في رفق بين النجوم والليل، بدأنا ندرك أن السعادة ليست غاية نصل إليها، بل هي تلك اللحظات التي نعيشها بتجرد، بعيدًا عن القلق والهموم، السعادة في رائحة الورد العابر، وفي ضوء القمر الهادئ، وفي دفء الصحبة التي تشاركك تلك اللحظات.

كانت القلوب، التي أضناها البحث الطويل، تجد في تلك الليلة ما لم تجده في رحلاتها السابقة، كأن الكون كله قد أهدى لنا تلك الليلة لتكون رسالة أن ما نبحث عنه قد يكون أقرب مما نظن، فقط إن أفسحنا لأنفسنا مجالاً للتوقف والتأمل.

ومع اقتراب الليل من نهايته، بدأ الفجر يرسم خيوطه الأولى على الأفق، بلون وردي خافت يتسلل بين النجوم التي بدأت تتوارى، وكأن الشمس، بتلك الخطوط الناعمة، تهمس لنا بأن كل شيء سيبدأ من جديد، وأن في كل إشراقة أمل جديد نولد معه، كانت الطيور تستيقظ ببطء، تغني ألحانها البسيطة وكأنها تعزف سمفونية ختامية لتلك الليلة الساحرة.

وقفنا هناك نتأمل تحول الليل إلى نهار، وأحسسنا بتلك القوة الهادئة التي تأتي مع بداية يوم جديد، شعرت حينها بأننا لسنا فقط شهودًا على هذا الجمال، بل نحن جزء منه، لحظات كهذه لا تُمحى، بل تبقى في ذاكرتنا كأنها محفورة في القلب، هي تلك اللحظات التي تذكرنا بأن السعادة لا تأتي دائمًا بصخب، بل في هدوء الطبيعة وفي سكون اللحظات التي تجعلنا نشعر بالامتنان لكل ما حولنا.

ومع شروق الشمس، أدركنا أننا بعد رحلة طويلة من البحث، قد وجدنا شيئًا أعمق من السعادة، وجدنا السلام في قلوبنا.

ومع كل شعاعٍ يتسلل من الأفق، شعرت أرواحنا كأنها تتجدد، تلك القلوب التي كانت تبحث بلا هوادة، أدركت في تلك اللحظة أن السلام والراحة لا يحتاجان لمسافاتٍ طويلة كي يُكتشفا، بل يوجدان في هذه اللحظات الصافية بين الطبيعة والنفس، جلسنا في صمتٍ نراقب بزوغ الفجر، وكأننا نمتصّ من ضوء الشمس الأولى طاقةً جديدة تغمرنا بالأمل.

وبينما تلاشت آخر بقايا الليل، وأخذت الأصوات تعود تدريجيًا إلى الأرض أدركنا أن كل ما كنا نبحث عنه من سعادة وسلامٍ كان دائمًا موجودًا، ولكن وسط ضجيج الحياة كنا نغفل عن رؤيته. هنا في حضن الطبيعة الهادئ، وبين رائحة الياسمين والنرجس، وجدنا الحقيقة البسيطة التي غابت عنا لسنوات السعادة ليست في الوجهة التي نسعى إليها، بل في الرحلة نفسها، في كل لحظة تأمل وامتنان، في كل ضحكة عابرة وفي كل نفس هادئ نأخذه ونحن محاطون بجمال الكون.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights