الخيال الشعبي
د. حميد أبو شفيق الكناني
يلعب الخيال الشعبي دوراً كبيراً ومؤثراً في تعيين الكثير من الاختيارات والقرارات والمسارات للفرد والمجتمع،
وذلك بصياغة مفاهيم ذهنيّة تترسب مع مرور الزمن وتتركز كأصول عرفية وقواعد أدبية وثوابت اجتماعيّة لابد منها ولا مفر عنها، حيث تصاغ صياغة أدبية على شكل جملة نثرية أو شعرية أو سجع رنان تخفق له القلوب وتحار فيه الأذهان أو
مثل شعبي مشهور.
*ورب مشهور لا أصل له*
والأمثلة التالية هي على سبيل المثال لا الحصر:
١- لا تفكر لها مدبّر
على الرغم من أن الفكر والثقافة مترادفين يأتي ذكرهما متتابعين ليدل أحدهما على الآخر إلا أن الحقيقة غير ذلك، والواقع شيء آخر، وهذا الترادف من باب الاصطلاح والعرف والسماع فقط،
فالثقافة هي السلوك بأنواعه سلباً وإيجاباً وإن كانت سمعتها إيجابية، وقد تكون الثقافة عفوية وتلقائية وتصدر من باب فطرة الطبع البشري،
وأما الفكر فيحتاج إلى أسس وآليات ومقدمات ونتائج تنتهي بالتطور والازدهار للعقلية السليمة والنفس الزكية، وقد تستعمل هذه الآلية بنوايا سيئة ونزوات شيطانية مبنية على أنانية الفرد المستبد والمستأثر.
*قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ*
وهذا المثل الشائع والاصطلاح الرائج أقصد *لا تفكر لها مدبّر* هو تعطيل لكافة آليات العقل وكبت للأفكار ومنع للحركة وقتل للحيوية، وفي النهاية يقبع الإنسان تحت وطأة الموت المقنع فيعيش حياة بلا داع ولا مبرر وآخر دعوانا: *إكرام الميت دفنه*
*٢- اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب»*
هذا السجع الرنان قد يدفع إلى سلوك انتحاري في الإسراف والتبذير والبذخ، حتى ينتهي الأمر إلى العجز والإفلاس .
بينما نجد أن القرآن الكريم يدعو إلى الوسطية في كل الأمور والاعتدال في السلوك في الفعل وفي القول حتى جعل المبذرين إخواناً للشياطين، ومما ورد في الذكر الحكيم:
“وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ”
*الإسراء٢٩*
وأيضاً قوله:
“وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا” الفرقان٦٧
وهناك إشارة أخرى بإسلوب آخر:
” وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا ”
الإسراء ١١٠
ونقرأ في نهج البلاغة
مَا عَالَ مَنِ اقْتَصد. …
الحكمة ١٤٠
وقد ورد في الآثار والأخبار الكثير من ذلك ومنها:
حُبُّ التَّنَاهِي غَلَطْ خَيْرُ الأُمُورِ الْوَسَطْ.
وفي رواية أخرى:
حُبُّ التَّنَاهِي شططْ وخَيْرُ الأُمُورِ الْوَسَطْ.
٣- تزوجي قبل أن يفوتك القطار!
جملة مشهورة وعبارة محفورة في الأذهان وجارية على اللسان، وكأن القطار ينقل المتزوجين والمتزوجات من بلد لآخر ومن قارة لقارة، في عالم فسيح وجو مريح وكأنما تحت هذا القطار جنات تجري من تحتها الأنهار..
وكأنه البراق يطوف بصاحبيه الآفاق.
وكم من فتاة دهسها القطار فعاشت على غير وفاق.
وكم من فتاة قضت أحلامها ومضت أيامها بانتظار القطار ولم تفكر لحظة بالطائرة!
٤- الحضارة الإنسانية
ظهرت الحضارات اللامعة في العهود الديكتاتورية، عصور الاستبداد والاضطهاد والاستعباد، ولا جديد تحت الشمس فما زال فرعون يبني أهراماته على ظهور القوم، فما هي الحضارة؟
هي مجموع ما توصل له الإنسان من تطور في العلوم والفنون والعمران والآداب فهي حضارة بشريّة وليست إنسانية!
فجاء في القرآن على لسان فرعون :
“يَٰهَٰمَٰنُ ٱبْنِ لِى صَرْحًا لَّعَلِّىٓ أَبْلُغُ ٱلْأَسْبَٰبَ”
غافر٣٦
وقوله:
” أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ”
الزخرف٥١
وكما ورد في نهح البلاغة الحكمة:
فما جاع فقير إلا بما متع به غني
إن الحضارة البشرية أنانية بامتياز وهي على مر العصور وكر الدهور سلطوية دموية لأن من طبيعة الإنسان التعدي منذ حمل الأمانة إلى هذا اليوم، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا .
يقول توينبي:
(إن المدنية مسرح الشيطان ومجاله الذي تخصّص فيه)
إن الحضارة أو المدنية في جملة واحدة:
أنا ومن بعدي الطوفان
فوضناك يا ياسين.
استنتاج
لعل لضعف التراث وأفول الحضارة الدور البارز في هذه الظاهرة ظاهرةالخيال الشعبي، إذ تعاني الأمة من تراث بائد ومنقرض يتحكم في أقوال وأفعال الخطيب والأديب، الأمر الذي يجعل صاحب الخطاب أسيراً كسيراً يتكلم بلغة الشارع ولا يتعدى ما وراء ذلك، فالأحاديث الشعبية والأفكار القديمة وتكرار المكررات معشعشة في ذهنه لأنه من غزية
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويت إن ترشد غزية أرشد
وكما قال الجواهري:
فالنور لن يعمي عيوناً
قد جبلن على الظلام
لقد فات الحالم والمدعي أن الإبداع ليس وليد اللحظة بل هو وليد الفطرة المتأصلة منذ نعومة الأظفار حتى نهاية الأعمار.
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء .
إن الواقع عدو الحالم والمدعي فترى كل دخيل ومتطفل يسقط في أول صدمة.
ولأن التراث ضعيف فقد يطفو الزبد ويباع ويختفي ما ينفع الناس في غيابات الرفوف والمكتبات.
وفي النهاية «يموت العلم بموت حامليه»
جاء في الذكر الحكيم:
“وفوق كل ذي علم عليم”
الآية ٧٦يوسف
فبينما أنت تلهو غيرك يصنع مجداً…
والحديث ذو شجون ولله في خلقه شؤون.