وقفات تربوية ( ٦ ) [تحديات التربية في مواجهة الانحراف الفكري]
ثريا بنت علي الربيعية
من الثابت أنّ المجتمع العُماني يستمدّ أفكاره ونهجه من مبادئ الإسلام الصحيحة، وقِيَم المجتمع العُماني الأصيلة، والإرث الحضاري العُماني الذي توارثه الأبناء من الآباء عبر مراحل التاريخ العريق، والذي ساهم بصياغة شخصية الإنسان العماني المُعتدل فكرياً والمتّزن نفسياً، حتى أصبحت السمعة الطيبة والانضباط الخلُقيّ صنوان لا يفترقان عُرّف به المواطن العماني سواء داخل أو خارج أسوار الوطن، بل حتى في أصعب الظروف، وبالتأكيد هذا الأمر ساعد على المرونة في تقبّل الآخر، وتبنّي قيَم الحوار والتسامح بين أبناء المجتمع مهما بدا الاختلاف في العِرق أو اللون أو المذهب والطائفة؛ فصارت الشخصية العمانية يُضرب بها المثل في الحكمة، ونبذ التعصب الفكري، والبُعد عن النعرات الطائفية، وبالطبع باتت علامة فارقة مميزة للمجتمع العماني الأصيل المتعايش سلمياً بكافة أطيافه ومذاهبه، متعاهدين شهادة النبي الكريم لأهل عمان؛ شهادة تشريف لكل العمانيين بأصالة معدنهم، وشهادة تكليف بمسؤوليتهم أن يحافظوا على هذا المستوى من محاسن الأخلاق، مصداقاً لقولِ رَسُولُ اللَّهِﷺ: “لَوْ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ مَا سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ” رواه مسلم.
على النقيض من ذلك ما نراه من وقائع في بعض الدول المجاورة في الآونة الأخيرة، أو حتى أحداث متفرقة في بعض المجتمعات الغربية بالتزامها لبقايا التمييز العنصري أو الصراعات الطائفية؛ ما يؤرق أمنها، ويهدم تماسكها ووحدتها، وحتماً وصل الحال بها إلى التشتت وويلات الحروب في كثير من الأحيان، وقد يُدرك المتمعّن الفطِن أنّ أصل هذا الصراع ومنشأه على الغالب الفكر المنحرف الضالّ، ومصادرة رأي الآخَر وعدم تقبّله؛ هذا الداء المستطير الذي أصبح أبرز الأوبئة التي فتكت بكثيرٍ من المجتمعات، وقوّضت استقرارها، وليس ببعيد من هذا ما حدث مؤخراً في مجتمعنا العماني كواقعة استثنائية، على إثرها تم الاعتداء على أحد المساجد، وقد سقط فيها أشخاص أبرياء ضحية لفكر متطرف؛ الأمر الذي أحزن كل عماني أصيل تربى على هذه الأرض الطيبة، واستمسك بالقيم السمحة، فأبت نفسه هذا الفعل قلباً وقالَباً، لا سيّما ما تتّسم به مسِيرة الفرد العماني من وعيٍ فكريّ يمنعه من الضرر أو التعدّي على الآخَر بأيّ شكل من الأشكال، هذا وإن كانت هذه الحادثة دخيلة شاذّة بالطبع عن مجتمعنا ومبادئه الأصيلة، بَيْد أنها كافية لتجعلنا نقف وقفة تربوية جادّة في دراسة أسبابها وأبعادها على الشباب؛ كي لا تتكرر هذه الثغرات مستقبلاً.
هكذا يتبين أنّ المسؤوليةُ في قادم الوقت ستصبح أكثر صعوبة، فنحن أصبحنا محاطين بعالم منفتح، مثقل بدفقٍ إعلامي، وزخم الفضائيات التي تبثّ آلاف القنوات، ناهيك عمّا تحمله الشبكة العنكبوتية في طيّاتها من مواقع إباحية أو عدائية للدّين، وفي المقابل ما تطرحه هذه المواقع من فِكر مشوّه يحارب المبادئ الإسلامية النقية، وقيَمه الزكية، كل هذا كان كفيلاً أن يجعل الشباب يعيشون اليوم تحت تأثير العالم الافتراضي، محاطين بمثل هذه المتغيرات، وبلا شك أنها تسبب لهم الكثير من المشكلات التربوية والأخلاقية؛ إضافةً لِما تخلّفه من تأثيرات نفسية واجتماعية، وما قد تتركه واقعاً من آثار سلبية وخطيرة على الشباب في مجالات الجريمة، وتكفير الآخرين والانحلال الخلقيّ.
في الحقيقة شكّل هذا الأمر تحدياً خطيراً للتربية في هذا الزمن؛ فالتربية تُعدّ أمراً معقداً صعباً للغاية. بالمقابل، ما يواجهه المربّون من تحوّلات واسعة في مساراتهم المقننة، بحيث أصبح لا يمكن عزل الناشئة عن هذا الدفق والزخم التقنيّ، لهذا من الأهمية بمكان أن تتم مراجعة منظومة التربية؛ بمناهجها وأساليبها، ودراسة تأثير مثل هذه الأفكار المنحرفة، التي تقع بظلالها على عقول الشباب، وقد أصبح لزاماً على اللبِنة الأولى (الأسرة) أن تتبنّى مرتكزات واضحة في التربية باعتمادها النهج الإسلاميّ الثابت لبناء عقلية وعقيدة راسخة في قلوب أبنائها، تحميه من سموم الانحراف الفكريّ، وتقمع تفخيخ عقولهم بمثل هذه الأفكار، وعلى صُنّاع القرار التربوي، وواضعي الخطط التربوية التنبّه لمثل هذه الأحداث، وتعزيز المناهج بما يلائم، والتنبه للمستجدّات الفكرية، حبّذا لو تضافرت جهود جميع المؤسسات الاجتماعية، وإعادة التفكير مليّاً لتعزيز الوعي الفكري للمواطن العماني، ووقايته من خطر الانجراف لمثل هذا الفكر المتطرف البعيد كل البُعد عن تعاليم الدِّين السمح، وعاداته الأصيلة.
نخلُص في هذا المقام أن يدرك كل من يحمل الهوية والصبغة العُمانية ما يحيطه من فتن ودسائس تُحاك ضد المبادئ الإسلامية السويّة، وقواعد الأمن الفكريّ، والتيقُظ بضرورة تحصين فِكر الأبناء بالمراقبة الدائمة، وتصفية ما يُبثّ لهم، بما يقيّمهم سُلوكاً في الواقع، أضف إلى ذلك الأمانة في بناء العقيدة الصحيحة، وسدّ الثغرات بفهم الاختلاف أيّاً كان فهماً عميقاً، بما يتيح تقبُّل الجانب المختلف والتعايش معه.