إجادة بين الطموح والواقع
إجادة بين الطموح والواقع
طلال بن راشد بن سليم المقبالي
أنهيت عملي لهذا اليوم، أمشي في ممرات مدرستي منتظراً (ابني) حتى ينتهي من اختباره، وجال في نفسي شيءٌ ما.
انتظاري له أعطاني رغبة جامحة للتجوّل في أروقة حرم المبنى ومخارجه.
بين جدرانه طُوِيت فصول كثيرة من الآمال، وهنا أيضاً ما زال الكثير منها قيد الانتظار، هنا الذكريات لا تُباع بتعاويذ النسيان.
بين جدران هذا المبنى وأروقته عاش النشاط متردداً يروي فصولاً من الجدّ والاجتهاد، فصولاً من العمل الدؤوب.
رافعاً رأسي تارةً، وتارةً أُخرى يتراءى أمام ناظريّ طيفُ زمنٍ بين زوايا تلك القاعة، أو بابٌ خشبيّ.
تتراءى لناظريّ مشاهد من الذكريات، مشاهد من الآمال. ما بين الجدّ والاجتهاد خيوطْ نسجَ العملُ الدؤوب منها رواية الجنون بمهنية وحرفية فائقة، أهو القدر؟ أم تلك الخيوط التقت هكذا لتنتج كمّاً هائلاً من …. .
زاويةٌ هناك أعادتني إليها، أعادتني وأنا أتحسّس السراب، استعدتُ الملامحَ، وكثيرٌ من المَشاهد كأنها وليدة اللحظة لم أكن راغباً فيها.
هذا العمر ينفلتُ بغزارة، بنهاية هذا العام الدراسيّ 2023 / 2024 م أكون قد أتممتُ مسيرة أربعة وعشرين عاماً في سلك التربية والتعليم، طبعاً بغضّ النظر عن الأربع سنواتٍ الأخرى التي قضيتها متنقّلاً في أروقة كلية التربية ومدارس المدن والقرى المحيطة بها من كلّ حدبٍ وصَوب.
مارستُ مهنتي بكل صبرٍ وإخلاص، تدرّبتُ على أعمال أخرى ليست بذات العلاقة بالتخصص الرئيس، فالعمل الإداري والأعمال الأخرى المصاحبة له بحاجة إلى المزيد من الجهد ووو…… إلخ.
طوال تلك الأعوام التي قضيُتها في أروقة المدارس ومراكز التدريب بالمحافظة وخارج المحافظة، اكتسبتُ الكثير بين معلّم حيناً، ومشرفاً لنشاطٍ معيّن تارةً أخرى، ومشرفاً على الأنشطة ذات أعوام، وأعمالٍ إدارية لا يسع المجال للحديث عنها.
كما شاركتُ في كنترول المدرسة لأعوام، وأدرته ذات عام، وشاركت في مراكز تصحيح صفوف الثاني عشر لأعوام عديدة.
قدمتُ العشرات من أوراق العمل في المبنى المدرسي ومدارس أخرى، ناهيك عن تلك التي قُدّمَت في مراكز التدريب سواء داخل المحافظة أو خارجها.
التحقتُ بدورات في مجال الحاسب الآليّ، وكان لي السبق في مشاريع لم يسبقني إليها أحد على مستوى السلطنة بشكل عام، وكُرّمتُ في احتفال على مستوى الوزارة بالعاصمة مسقط، وكُرمتُ كذلك على مستوى المحافظة.
ولا أنسى منصّتي التعليمية التي أنشأتها قبل أكثر من عشر سنوات على الشبكة خدمةً لطلاب الثاني عشر، والتي كرسّتُ من أجلها الغالي والنفيس، تُوّجت بلقاء في مبنى الإذاعة والتلفزيون بمدينة الإعلام بالعاصمة.
عشرات من شهادات الشكر والتقدير لأعمال كُلّفت بها أو لجانٍ شاركتُ فيها أو مبادرات تفوّقت وبشرفٍ فيها كذلك.
التحقتُ مع أوائل الملتحقين بالمركز التخصصي بمسقط في بداياته، كلّ قاعاته وردهاته وممراته ما يزال صوتي صادحاً فيها حتى هذه اللحظة، واختتمتُ مسيرتي فيه بحفل يليق بكوكبةٍ من الرائعين وما زال الأثر.
ولجائحة كورونا وقعٌ خاص، تحديداً زمن (التعليم عن بُعد)، كنت في الصفوف الأولى هناك، بين المدربين لعشرات من الكوادر التعليمية، واجهتُ مع كافة الفِرق المعنية بذلك العديد من التحديات والصعوبات، وهناك الكثير من القصص التي لم تكتمل.
وما بعد الجائحة التي أدين لها بالكثير، أدين لها بكلّ الجديد الذي اكتسبته وطبّقته بين فريق عملي حتى اليوم، أدين لها بكل مكتسب تقني ألهمني الشغف في اكتشاف عوالم مجهولة لم أعتقد ذات يوم أن أصل إليها.
وجاءت (المنظومة)، اعتقدتها كسابقاتها شغف آخر يليق بي، إلا أنني اكتشفت أنها محطِّمة لتاريخ يشهد بإنجازاتي، لم أتعوّد طوال تلك المسيرة أن أكون في ذيل القائمة، جاءت مكرّمة معزّزّة كثيراً ممن لا يستحقّ، وقاصية لقامات، وكأنّها تقول: آن لكم أن تستريحوا.
وها أنا ذا اليوم أضعف من أن أنسحب، أثقل من أن أستمر، مثل غريق أخرس يلوّح بيده لرجلٍ أعمى.
وما بين الأمس واليوم هناك في رأسي نصوص مؤجلة تجعلني أهزّ قدماي حتى وأنا نائم.
ومهما يكن من أمر، ها أنا ذا الآن أمشي في ممرات مقرّ عملي الصاخب، إلا أنني لم أكن أسمع في هذه اللحظة سوى وقع أقدامي ولم أكنْ أشعر بما حولي.
ومن بهو المكان وأمام منصة العَلم بحثتُ عن نفسي فلم أعثر عليها، وبحثتُ عن حقيبتي فلم أجدها، فناديتُ على نفسي فارتدّ إليَّ الصوت ليقتلني ألماً.
الهدوء يعمّ المكان، حارس المبنى ينبّهني، أتواصل مع أهل بيتي ليتم إشعاري بأن ابني أصلاً لم يأتِ إلى المدرسة اليوم برفقتي، لأنه لا يوجد ما يختبره في هذا اليوم.
وفاضت القلوب بما فيها.
اللهم جبراً.