سلطنة عُمان تحتفل بالعيد الوطني الرابع والخمسين المجيد المجيد
Adsense
قصص وروايات

الفزّاعة ..

بلقيس البوسعيدية

كان يوما من أيام الربيع، وكانت النسمات تُداعب الورود، وتُحرك أغصان الأشجار، وتقطف ثمار بعضها، وكُنتُ جالسة بالقرب من النافذة، أرتشف كوبا من الشاي، وأتأمل شكل الغيوم البعيدة، وهي تسحبُ ثقلها ببطء شديد، كعجوز فاتنة وسط السماء. أيقظتْ رائحة الأشجار أحاسيسي المرهفة؛ فلم أستطع مقاومة جاذبية العشب الرطب الممتد كسجادة خضراء ناعمة من عتبة الباب حتى جدران البيت، إذ برمشة عين وجدتني مُستلقية عليه، مادة ذراعيّ النحيفتين على جانبي، تاركة لعينيّ حرية تأمل رؤوس الأشجار، وهي تتمايل كراقص الساعة في جزع وارتباك.

فجأة وسط صفاء تلك اللحظة، وغمرة تحليقي في فضاءات الخيال، حطت فوق سطح بيتنا حمامة سوداء، بفضول طفلة العاشرة من العمر أخذتُ أراقب تحركاتها، واُقلب نظراتي في ريشها الناعم، وبدورها أخذت تنظر إليّ بنظرات ملؤها الشك، تُحرك رأسها يمنة ويسرة بطريقة غريبة، وكأنها تقرؤني صفحة وراء صفحة. “من أين جئتِ أيتها الحمامة؟ لمَ اخترت سطح بيتنا؟” هكذا تساءلت في نفسي قبل أن أُقرر تقمص دور الفزاعة التي نصبها البستاني دون غاية في آخر (الحوش). أردت أن أعرف سر تلك الحمامة التي ما انفكت تنفش ريشها، وتصدر هديلا حزينا، كاد أن يشطر قلبي إلى نصفين لشدة ما شعرت بما يُخفيه وراءه من أحاسيس وقصص، عاشها قلب تلك الحمامة في مكان وزمان ما. لم تمضِ سوى بضع دقائق حتى حطت بقربها حمامة أخرى، كانت بيضاء، ولمرتين كادت أن تفقد توازنها لولا أنها فردت جناحيها، ورفرفت بتوتر ملحوظ مادة عنقها للأمام.

كانت حركاتها بطيئة وثقيلة بعض الشيء، ولم تكن تصدر أية أنغام حزينة مثلما كانت تفعل الحمامة السوداء، بعد لحظات من تمعني فيها ومراقبة حركاتها، شدني شيء غريب ومخيف بعض الشيء تحت أحد جناحيها، كانت بقعة حمراء قانية، عندها فهمت لم اختارت الحمامة أن تحط على سطح بيتنا، كانت تأخذ هدنة قصيرة، أو استراحة تشبه استراحة مقاتل جريح في انتظار بدء معركة جديدة، “كيف؟ ومتى؟ ومن يكون الفاعل يا ترى؟ أكان المجرم بشرا أم وحشا كاسرا في هيئة طائر جارح؟!” قلّبتُ في رأسي مئات الأسئلة، ولم أجد لها إجابات شافية، ووسط تلك التساؤلات شعرت بوقع أقدام تقترب مني، فنهضت واقفة كمن عضّته أفعى، وفور تحركي سمعت تصفيق جناحي الحمامة السوداء فوق رأسي، ورأيتها كيف تحلق مبتعدة عن سطح البيت بخوف مميت، وفي اللحظة ذاتها أيضا سمعت صوت ارتطام جسد صلب بالأرض، وهنا كانت الصدمة قاسية على قلبي، فالحمامة البيضاء بدلا من أن تسلم جناحيها للريح سقطت على الأرض، كما تسقط الأوراق الصفراء من بين أحضان الأشجار، صحت بالبستاني بصوت ثائر: “ماذا تنتظر؟! هيا اجلب لي الحمامة حالا”.

كانت جامدة صلبة بين يديه، وكانت عيناها تنظران إليّ بحزن رافقني بعد تلك الحادثة لأيام طوال. لبست ثوب الحداد لثلاثة أيام: في اليوم الأول تفاقم شعوري بالحزن، شيعت الحمامة إلى مثواها الأخير تحت النخلة الواقفة قبالة نافذتي، وفي اليوم التالي ساءت حالتي ولم أغادر الفراش، وامتنعت عن مقابلة الأشخاص، وتوقفت عن تناول الطعام والشراب، وفي اليوم الأخير كرهت الفزّاعة فطلبت من البستاني أن ينتزعها ليتخلص منها في أقرب مكب للنفايات، وبمرور الأيام تلاشى إحساسي بأني كنت سببا في موتها، توقفت عن لوم نفسي وعتابها، ووجدتني أتفاعل مع قاتل الحمامة، وكأن شيئا لم يكن. رأيته في ذلك اليوم يعود وبيده سلة مليئة بجثث الحمام، ومن على كتفه تتدلى بندقية صيد.

لم أنتقم لموت الحمامة، ولم أعترف بمكان قبرها حتى اللحظة، هكذا ببساطة تصالحت مع قاتلها؛ لأنه كان أبي.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights