القصص والروايات

نزهة

بلقيس البوسعيدية

كجراء مشاكسة نتسابق أنا وأختي إلى السيارة في تنافس محموم كلما قرر أبانا أن يصطحبنا في نزهةٍ قصيرة، كانت أختي تطمع بالجلوس في المقعدِ الأمامي بجانب أبي؛ لكي يصدِق إحساسها ولو لمرة واحدة بأنه موجود معنا طوال النزهة، بينما أنا كنت أطمعُ بالجلوس بجانبه لا لأختبر صدق أحاسيسي؛ وإنما لتصير لدي نوافذ أكبر، أطلقُ من خلالها فضول نظراتي إلى العالم حولي، إلى الشوارع والبحر والجبال والشجر، والبيوت والصخر والسماء الصافية، وإلى كل ما هو متوهجٍ بفتنة خارج حدود السيارة.

أحب تأمُل الشوارع ودهشة النخيل الباسقات على طول أرصفتها، أحب تأمُل الأعشاب الرقيقة وهي تتمايل بعذوبة على لحن الطبيعة كراقص لا يجيد إلا التمايل نحو اليمين ثم اليسار، أحب تأمُل الصغارِ وهم يشيدون بهمة أحلامهم برمال البحر اللطيف، وهم يسكبون ضحكاتهم بين أحضان الموج، وهم يكتشفون بفضول خبايا الأصداف المتناثرة كأفواه فاغرة على طول الساحل، أنهم يذكرونني باللحظات التي عشتها سعيدة على طريقتي، حيث رأيت النور لأول مرة وأحسست رغم كل شيءٍ بأن الحياة سهلة، مسالمة، وهادئة، كما أحب تأمل ملامح الناس ومراقبة تحركاتهم وردود أفعالهم في غفلة منهم. أحب زرقة السماء في النهارات المشمسة، وأحب كيف يتحرك الناس بين الظلال والنور كشيء ضئيل متوجس ومندفع بحماسة نحو جهة تلاءم تطلعاته وتشبع جوع رغباته، أحب شكل النوارس وهي تطير في أسراب آمنة مطمئنة وكأنها في عناق حميم لا نفهم كنهه نحن البشر، ولطالما شدني شكل ذلك البيت الأبيض الصغير المتألق في وحدته قبالة البحر، البيت الذي أجده يقف صامدًا وخاليًا دائمًا، الشبيه بالأشجار الضاربة جذورها بالأرض، غير أن لا فروع له ولا ثمار ولا حتى طائر يحطُ على كتفه من دون قصد، وكأنه نهض بنفسه فجأة من اللاشيء؛ ليثبت وجوده ويُعاند الحياة على طريقته الخاصة، يقف شامخًا وهادئا مهما كان الطقس حوله ماطرا أو مشمسا أو حتى مكتظٍ بالضباب الكثيف، لا يكترث به المارة النادرون ولا يكترث بهم وهم يتركون ظلالهم تركض فزعة في جدرانه، وهم يطوفون حوله مثل ذئاب ضالة متعطشة لشربة ماء دافئة. في كل مرة يجذبني إليه أتساءل مندهشة بيني وبين نفسي: “ترى كيف لهذا البيت الصغير أن يصمد وحيدا هكذا؟”، وأكرر سؤالي مرة تلو الأخرى إلى أن أنفجرُ ضاحكة بصوتٍ عالٍ، كأنما يصيبني مس من جنون، أضحك حد أن تنزلِق من زاوية عيني دمعة ثقيلة، ولا أنقطع عن الضحك إلا على صوت أبي وهو يسألني بحدة واستغراب: “ما خطبك يا فتاة.. ما الذي يُضحكك؟!”، أجيبه وأنا ألقف خفية دمعتي الهاربة بطرف أصبعي الصغير: “لا، لا شيء.”، بينما وفي داخلي أصرخ برجفة من أكتشف حقيقة محيرة: ” كم أن ذاك البيت يشبهني.” لا أنفك أبتلع الحقيقة وأصمت، فأنا لا أجرؤ على الجهر بذلك الشبه الكبير بيني وبين ذلك البيت الصغير، كما لا أجرؤ حتى على البكاء مخافة أن ينجم عن ذلك ما لا يحمد عقباه.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights