قصة قصيرة سأكسر القيود (الجزء الأول)
خلفان بن علي بن خميس الرواحي
صوت يتردد في داخله يقول له: أخرج مما أنت فيه. ولكنه يقاوم كل ذلك، ويلزم القعود مكانه، لا يحبذ الاختلاط مع الآخر، يعشق العزلة، يتأرجح بين غرفته والصالة، وربما يحمل نفسه أحياناً إلى مجلس الرجال ونادراً ما يخرج لفناء المنزل. كان ينزعج من ضوء الشمس، لا يحبها، لذا تجده يهرب سريعاً منها ويندس في إحدى الزوايا بالبيت.
حالته تلك أثارت الكثير من الأسئلة لدى الأشخاص الذين يحيطون به، والداه وإخوته وحتى أهل القرية. جلّ وقته الصمت، وإن تحدّث فبكلمة، وأحياناً يقول عبارة مكتملة الأركان، ولكن لتسمعه لا بدّ أن تقترب منه وتستغرق في السمع.
هكذا هي حياته، لا تجديد فيها ولا يعرف أحداً ولا يعرفه إلا القليل من الناس.
“أنور” شابٌّ وسيم، كل صفات الجمال موجودة فيه، كل من يراه يُعجب به ويصفه للآخرين، كان قوي البنية، طويلاً، مفتول العضلات، هكذا منذ أن وُلد، عيونه العسلية وشعره الأشقر الطويل الذي يكاد يغطي منكبيه جعلته في مركز المقارنة مع الكثير من بني جنسه، ولكنه كان يتشاءم من جماله هذا، وقد يكون هو العامل الذي جعله ينعزل عن الكل، في داخله يتمنى أن يكون دميم الصورة، حتى أنه أصبح يبتعد عن المرايا في كل مكان، لا يرغب في رؤية نفسه.
حاول والده مراراً أن يخرجه من الدائرة المغرقة التي يعيش فيها، ولكن دون جدوى. حتى عندما يحضر الضيوف إلى البيت فهو لا يخرج إليهم، ومع هذا كان مستواه الدراسي جيد، فقد شق طريقه في التعليم، يحكي أحد زملائه في المدرسة عنه فيقول:
“كان “أنور” طالباً ذكياً لمّاحاً بالفطرة، لا يتعب في فهم الدروس، بمجرد شرح المعلم تجد المعلومات قد رسخت في ذهنه، ويظهر ذلك من درجاته العالية، لكنه لا يشارك. منذ الصباح تجده يجلس على مقعده لا يبرحه، حتى إنه لا يخرج لطابور الصباح، وخلال الفسحة يأتي بوجبته من البيت، لا يشارك أحداً في الحديث، قليلاً ما نسمع صوته إلا إذا طلب منه المعلم ذلك. أذكر أن الأخصائيّ حاول أن يحلّ مشكلته ولكن دون جدوى”.
استمرّ حاله هكذا حتى أنهى أنور الثانوية وحقق نسبة تدخله الجامعة، ولكنه رفض ذلك، كيف ينتقل من بيته إلى مكان آخر؟ لا يمكن، هناك حياة مفتوحة وهو تعوّد على إغلاق نفسه في بوتقة واحدة، مستحيل، مستحيل، كان يرددها لأسرته، أنا لا أريد الدراسة، يكفي ما أخذته من علم، سأظل في البيت ولن أخرج، يصرخ بأعلى صوته، يدخل غرفته ويجلس على سريره.
ما يميز “أنور” أنه منظم في كل شيء، كل ما في الغرفة في مكانه، كان لا يسمح لأحد بالدخول إليها دون إذن منه، حتى والدته لا يمكنها ذلك إلا بعد موافقته.
يحب أن يكون كل شيء في مكانه، وإذا نُقل منه فيلاحظ ذلك ويزعجه كثيراً؛ لذا فالكل كان يتجنب الدخول ولمس أي شيء من أغراضه.
استلقى على السرير وأغمض عينيه لعله ينام قليلاً…
للقصة بقية، في الجزء القادم.