رمضانيات اليوم الثامن: العفو والتسامح من شيم المتقين
خلفان بن ناصر الرواحي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه الكرام أجمعين والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين، وبعد،،،
فيا أيها الصائمون الكرام، قال تعالى في كتابه العزيز في حق نبي الرحمة، وسيد الخلق أجمعين- صلى الله عليه وسلم- في سورة القلم:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم (4)}. وكما تعلمون فإن لنا فيه -عليه الصلاة والسلام- الأسوة الحسنة في كل شيء، وكما أنّ الله سبحانه وتعالى امتدح المؤمنين الذين يتميزون بصفة العفو والإحسان، وهي من أعظم الصفات التي يجب أن يتحلى بها المسلم؛ حيث يقول سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)}. فكما نلاحظ من هذه الآيات الكريمة، جاءت هذه الخصلة ضمن خصال عباد الله المتّقين، وبلا ريب فإننا جميعا نحن -المسلمين- نطمح أن نكون ضمن هذه الفئة التقية التي تتحلى بالصبر والعفو والصفح عند المقدرة.
فيا أيها الصائمون الأتقياء، فلنتذكر أننا في شهر التقوى، ولنراجع أنفسنا في هذه الخصال العظيمة التي تقربنا إلى الله تعالى، وهي فرصة عظيمة للمراجعة، واستلهام العبر لإصلاح النفوس من كل الخصومات التي لا تنتهي، والتي هي من ضمن الأسباب التي قد تؤدي إلى ضياع الأعمال الصالحة، وبقاء الخصوم بين أفراد المجتمع، وقطع صلة الرحم في كثير من الأحوال.
نعم، قد يتذكر بعضنا أن يطلب المسامحة من غيره في بداية هذا الشهر الكريم، أو ربما عند ذهابه للعمرة أو الحج، وربما بعضنا لا يهتم بذلك أبدا، ونسي أن هذه الخصال هي من شيم المتقين الكرام الذين امتدحهم الله تعالى في كتابه العزيز، وليتنا تسامحنا ونتسامح في كل موقف دون تخصيص شهر رمضان المبارك وحده، أو في وقت معين بعينه وفق ما نشاء فقط؛ وذلك من أجل طلب المسامحة والعفو عمن أخطأ في حقنا!
لهذا، اعلم عزيزي الصائم الورع التقي، أنّ الحياة هي مجرد محطة عبور وقنطرة لنا لطريق الآخرة، وهي دار الابتلاءات التي نُختبر فيها؛ فإما إلى فلاح وإما إلى هلاك وخسران والعياذ بالله، فكلنا يحتاج لأي عمل يقرّبنا إلى الله تعالى، ويزيدنا سموا ومنزلة عنده سبحانه وتعالى، فقد كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- متسامحًا مع من يسيء له، وهذا النوع من أعلى درجات التسامح، ومن المواقف التي تدل على تسامحه -صلى الله عليه وسلم- مع من يسيء إليه؛ ما رواه أنس -رضي الله عنه- أنّه قال: (كُنْتُ أَمْشِي مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعليه بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حتَّى نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عَاتِقِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ أَثَّرَتْ به حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِن شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قالَ: مُرْ لي مِن مَالِ اللَّهِ الذي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ له بعَطَاءٍ)- رواه البخاري. وكما جاء أيضا في كتاب الله تعالى؛ حيث أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالتسامح والعفو والإحسان، فقال سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}-[فصِّلت 35:34].
واعلم أيها الصائم التقي الورع، أنّ السيرة النبوية زاخرة بالمواقف والأحاديث الدالة على جميل عفو النبي -صلى الله عليه وسلم- وتسامحه في كثير من المواقف العظيمة؛ فلنكن جميعا قدوة حسنة في التعامل مع الآخرين.
ومما لا شك فيه أخي الصائم، أن هناك فوائد عظيمة في حياتنا سوف نجنيها في مجتمعاتنا إذا ما أدركنا أهمية هذه الخصال، ونذكر منها الآتي:
– يعود التسامح والعفو على المسلمين وعلى المجتمع الإسلاميّ بما هو خير، ويدفع عنا ما هو شر.
– يقلل من انتشار الفساد بين أفراد المجتمع الإسلاميّ، ويحفظ حقوقهم.
– يقوي روابط المجتمع، ويزيد من وحدة الأمّة الإسلاميّة وتماسكها، وفي ذلك سبيلٌ للتغلب على أعداء الإسلام والمسلمين.
– يرفع من درجة المحبّة والمودّة في المجتمع، ويقلّل من الحقد والكراهية، وتعمّ البركة والخير بين أفراد الأسرة والمجتمع.
– يزيد المؤمن قربةً إلى الله لبلوغ درجة التقوى؛ وهي من صفات المؤمن التقيّ، وينال بها العبد الفوز برضا الله سبحانه وتعالى.
– كما أنّ التسامح والعفو سببٌ من أسباب الرحمة والسعادة النفسية للإنسان والمجتمع على حد سواء، وهي طريق للخير، ويحقّق الراحة النفسيّة لمن يتخلّق بهما ويطبّقهما.
فهكذا علينا جميعا أن نعيش ونتعلم معا، كيف نتعامل مع أنفسنا ومع الآخرين، ونستحضر ذلك في حياتنا اليومية، وألا نجعل تسامحنا فقط محصوراً في زمن محدد دون باقي الأيام والشهور؛ وليكن شعارنا دائماً “العفو عند المقدرة”؛ لننال درجة التقوى.
والله ولي التوفيق وهو وليّ المتّقين.