الديون المعنوية
د. سعود ساطي السويهري
أخصائي أول نفسي
هل تداينت يوما؟
هل كان لأحد عليك مبلغاً من المال ذات يوم؟
كل هذا – إن حدث – سيأتي اليوم لسداده في حياتك، وحتى بعد الوفاة فإن أول ما يقوم به أهل الميت هو سؤال الناس: “من كان له عند فقيدنا دين فهو في رقبتنا”، حبًّا ورحمةً ووفاءً، والشاهد هنا في هذا الأمر هو أن أي دَين يمكن سداده، إلا الدَّين المعنوي.
فالدَّين المعنوي هو دَين كسر القلوب والخواطر، هو دَين الذل وكسر المشاعر، هو دَين القهر والظلم، هو دَين الألم الذي سببته للآخرين، فالدَّين المعنوي أشد خطرًا من الدَّين المادي، والطامة الكبرى هي أن هذا الدَّين لا يسقط بتوبة أو بصلاة أو غيرها، وشرطه هو أن يسامحك من قمت بظلمه أو قهره، ولو بكلمة ألقيتها من فِيك وأنت لا تدري وانتهت، ولكنها لم تنتهِ عند من انتهكت حقوقه، وتعديت على خصوصياته، ولم يزل أثرها في قلبه قهرا وحسرة، وأبسط هذه التعديات قول القائل: “جراحاتُ السهامُ لها التئامُ، ولا يلتئمُ ما جرحَ اللسانُ”.
وهناك من الأشخاص من لا يراعي المعنويات! أو يعلمها ولا يراعيها! أو يعلمها ويتعمد ممارسة الحرب النفسية على فريسته!؛ وهنا تنزف الضحية جروحها النفسية، وتذرف الفريسة دموعها المعنوية، فهل سألت نفسك يومًا كم شخصًا جرحت؟، وكم شخصٍ نام ودموعه على وسادته قهرًا وحزنًا من كلمة ألقيتها؟، وكم شخصٍ عاملت بما لا ترضاه لنفسك؟..
جرّب أن تطرح هذه التساؤلات أمام محكمة النفس للنفس، رجاءً وأمنية في الرجوع للصواب، ورد الحقوق، وتذكرة لأولي الألباب.
ولعل الاتجاه والرؤية الدينية الإسلامية للمعنويات تنظر إلى الإنسان ككائن مُشرف ومميز عن سائر المخلوقات، ومضمون الرؤية أمر رباني يأمر بمراعاة معنويات الآخرين، اقتداءً بالبُنية الأخلاقية الإسلامية القائمة على سلامة النفس، والفطرة الطاهرة النقية.
أما بالنسبة للرؤية النفسية للمعنويات فهي جوهر الصحة النفسية القائمة على الاهتمام بمعنويات الإنسان؛ إذ تُعد موطن العناية والرعاية، فالبعد بها عن موضع الاضطرابات والأمراض النفسية، والشعور بالسعادة والإيجابية هو الهدف الأسمى لهذه الرؤية؛ بما يحقق حاجاته النفسية من تقدير لذاته ومشاعره، وتحقيق الأمان والأمن والطمأنينة النفسية، والتي تتأثر – بلا شك – بمحيط العلاقات والمعاملات.
وخلاصة القول؛ إن كل فرد ينبغي أن يتحلى بطهارة النفس، ونزاهة السلوك، فأضعف الإيمان إن لم تستطع جبر الخاطر فلا تكسره، وسدد ديونك المعنوية قبل أن ترحل، وتذكر إنسانيتك، وعامل الناس بقانون: ( ما لا ترضاه لنفسك؛ لا ترضاه لغيرك)، فلا عيب في محاسبة النفس، ورد الظلم والقهر، وطلب السماح في الدنيا قبل أن تُعقد محكمة الآخرة، فالحساب هنا أهون وأيسر، ولك في الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة، حينما قال لمعاذ: “يا معاذ أمسك عليك هذا” يقصد اللسان، لأنه -صلى الله عليه وسلم- يعرف أثر الكلام ووقعه في النفوس؛ فإما أن يضر صاحبه، وإما أن يوقع أثر سلبيا على من تخاطبه، كل هذا وأنت لا تدري، ولا تلقي لهذا بالاً ولا وعيا، والحقيقة أنك قد قهرت وكسرت وظلمت، وتراكمت عليك ديون العباد، والله عز وجل يسامح ويعفو في حقوقه، أما حقوق العباد فهي موقوفة ومؤجلة ليوم القيامة.
وختامًا؛ صحح مسارك وطريقك، وراجع أسلوبك وردودك، وأصلح السريرة والطوية، وسدد ديونك المعنوية، وانفض غبارها، في ليلها قبل نهارها، وتعامل بنفس زكية وسوية مقتديًا بخير البرية – صلى الله عليه وسلم-.