الثلاثاء: 7 مايو 2024م - العدد رقم 2131
القصص والروايات

الانتِقام .. (قصة قصيرة)

   بلقيس البوسعيدية

يا له من كابوسٍ مروّع!

لقد عاشت أحداثاً مرعبة بكل ما تحمله الكلمة من معنىً. رأت أصابع الموت تُطوّق عنقها، وهذا لم يحدث لها من قبلُ قَطّ، وها هي ذي الآن تتنفس الصعداء، وتشكر الربّ لأن ما عاشته خلال نومها لم يكن حقيقياً، كان مجرد كابوس مخيف.

وجهها يتصبب عرقاً، جسدها مُنهَكٌ، وقلبها يخفق بسرعة شديدة. تشعر وكأنها انتهت للتوّ من العدْوِ في سباقٍ طويل. فكرة الخروج من الفراش في هذه الحالة حتماً ستكون أمراً مرهقاً؛ لذا حاولتْ الاسترخاء، ثم غادرتْ حجرتها بخطواتٍ متثاقلة، تبحث عن ابن زوجها ذو العشرة أعوام. بحثتْ عنه في المنزل كله ولم تجده، فأين ذهب؟

وفجأةً، سمعتْ وقْع خطواتٍ صغيرة آتية من خلفها؛ فنظرت لتُفاجأ به يقف وراءها مثل عصفور وديع، بشعرٍ أشعث، ملابس متسخةٍ وحذاء ملطّخ بالوحل. لقد عاد أخيراً بعد أن نال حصته من اللعب في الحديقة الخلفية للمنزل، التي لطالما نبّهته من عدم الخروج إليها، وهددته بحرمانه اللعب لأسبوع كامل إن تمرّد وخرج دون تصريحٍ منها.

 لاحتْ على وجهها أمارات الغضب وهي تقول:

“أين كنت أيها الولد الشقي؟!، بحثت عنك في كل زاوية ولم أجدك”.

رمقته بنظرة نارية، ثم اتجهت به إلى أقرب حمّام، وقالت بحدّة:

“هيا استحمّ، لا أريد أن أرى قذارتك هذه؛ فقذارة أخلاقك كافية.”.

صمتتْ للحظة وهي تتفرس في ملامحهِ البريئة، ثم أردفت قائلة بنفس الحدّة الشرسة: “أنت قذر، لا، لستَ قذراً فحسب، بل أنت كومة نتنة من القذارة، ومن هذه اللحظة أنت ممنوع من الخروج خارج عتبة البيت لأسبوعٍ كامل”.

“سوف أخبر أمي، أمي لا ترضى أن أُهان في بيتها”.

قالها عدنان بلهجة مخيفة، جعلتها تستعيد أحداث ذلك الكابوس الرهيب الذي راودها ليلة البارحة:

بينما كانت تخلع ملابسها لتنزل في حوض الاستحمام، فاجاءتها أم عدنان وهي تجذبها من شعرها بشراسة، أرادت (ليلى) أن تصرخ، لكن صوتها خرج مختنقاً على الرغم منها، ثم أمسكت بعنقها وضربت جسدها بالجدار بقوة وهي تقول بصوتها المرعب: “تبّت يداكِ وفُضّ فوكِ، إياكِ وأن تؤذي طفلي، سوف أقتلك، سوف أقتلك أيتها الآثمة”، كانت قوية، متوحشة، ومخيفة جداً عكس ما كانت عليه في الواقع.

“عليّ أن أحسم الأمر، لا، لن أتراجع عن قراري هذه المرّة”،

قالت ذلك وهي تنظر إلى زوجها من خلال النافذة”.

على طاولة الغداء، التقطت نفَسَاً عميقاً، وقالت في توتّر ملحوظ:

“إن ابنك هذا شقيّ، مخيف، وشديد العناد. لست أفهم، فبين الفينة والأخرى تنتابني أحاسيس مخيفة تجاه تصرفاته وردات فعله الغريبة”.

لم يُعقب على حديثها، تابع تناول طعامه بهدوء وكأنه لم يسمعها.

بعد لحظات من الصمت، عقدت ساعديها أمام صدرها قائلة:

“عزيزي، هل فكرت بما اقترحته عليك بالأمس؟”.

أفلتَ الملعقة تماماً من يده وتراجع إلى الخلف، ثم رفع رأسه ونظر إليها وهو يسألها باهتمام:

“لم أفهم، عن أي اقتراح تتحدثين يا عزيزتي؟”.

أدركتْ بقرارة نفسها أنه لم يتعب عقله بالتفكير باقتراحها بشأن طفله (عدنان)، لقد تجاهل الأمر تماماً، كما يفعل في كل مرة تطرح له فكرة أن يأخذ ابنه ليعيش بمعيّة جدته لأمه التي تسكن وحدها قرب ضفة النهر.

أجابت بنبرة حاولت جعلها صارمة قدر الإمكان: “ابنك (عدنان)، ألم اقترح عليك أن…”.

قاطعها وقد بدا صوته أشبه بالزمجرة، وهو يقول:

“كلا، لن أفعل ذلك أيّاً كانت الظروف والأسباب. قلت لكِ سابقاً لا أريد خوض أيّ نقاشٍ حول هذا الموضوع مطلقاً.حقاً أنا لا أفهم لمَ أنتِ مصرّة على إبعاده عنّا، إنه طفل وكل ما يحتاجه منكِ هو الحب الذي يفتقده والقليل من العطف والرحمة”.

عمّ الصمت بينهما للحظات، ثمّ قال وهو يضع كفّه اليمنى على ظاهر كفّها اليسرى:

“احتويهِ بحبكِ يا عزيزتي، كوني له أمّاً عطوف، عامليه وكأنه طفلك الوحيد.”

نهضتْ واقفةً كالملدوغ، وقف هو بدوره قائلاً: “أنا آسف، لم أقصد أن..”

 قاطعته بهدوء: “لا بأس، ما دمتَ مصرّاً على بقائه، فليكن.”

بسط ذراعيه نحوها، احتضنها محاولاً تلطيف الجوّ:

“لم أقصد أن أجرح مشاعرك بكلامي، تعرفين ذلك. اخترتكِ من بين نساء هذه الأرض ثمّ اكتشفنا بعد الزواج بأنك امرأة عقيم، وهذه مشيئة الله النافذة يا عزيزتي. مشاعري لم تتغير تجاهك، ما زلتُ أحبكِ كما أحببتكِ دائماً”.

ابتسم وطبع قبلةً على جبينها سائلاً:

” لمَ لمْ يشاركنا عدنان طاولة الغداء؟”

أجابته بعد أن جمعت شمل ابتسامة باهته:

“لقد خلد إلى النوم منذ ساعة.”

وفي حوالي الخامسة مساءً، أوَت ( ليلى) إلى الفراش واستغرقت في سُباتٍ عميق، ثم غرقت في دوّامة كابوس آخَر.

 رأت عدنان يقف على هيئة مرعبة، الأرض من تحته تتوهج بحمرة قانية، بعضٌ من الريش يتطاير على نحوٍ عجيب، وعندما حاولت الاقتراب منه؛ تفاجأت به يهجم عليها بشراسةٍ كادت أن تخطف منها أنفاسها.

انتفضت، صرخت، واستيقظت لتجد نفسها غارقة في بحيرة من العرق.

“ليس هناك ما يستدعي الخوف، أنه كابوس، مجرد كابوس آخر”.

قالت ذلك وهي تتناول كوب الماء الذي على المنضدة الصغيرة قرب السرير.

عندما هدأت قليلاً، هبطت السلالم الأربعة بخطوات مدروسة متجهة نحو غرفة الجلوس، وهنا كانت الصدمة الكبرى؛ إذ إنها لم تجد العصفور في القفص.

جمدت أسارير وجهها، وبدا عليها الذهول، وفجأة سمعت صوتاً يأتي من خلفها، وعندما التفتت رأت عدنان يقف وراءها ممسكاً برأس العصفور وجسده ملقىً على الأرض يرتعش رعشة الموت في بِركةٍ من الدماء.

 بدا المشهد أكبر من أن تستوعبه، فظنت أنها تعيش كابوساً آخَر، لكن ظنها خاب بعدما قرصت ذراعها وأحست بألم القرصة.

استجمعت شجاعتها، وهتفت بحدّة:

“ما هذا؟ ما الذي فعلته أيها الولد الشقيّ، لقد أزهقت روح عصفور بريء، يا لك من ولد أحمق”.

أسرعتْ نحوه ورفعتْ يدها كما لو كانت ستصفعه، ولكنها شعرت بشيء غريب، ثمّ ارتدّت بقوة، ارتدّت كما لو أن هناك قوة خفيّة تدفعها بعنفٍ إلى الوراء، وبكل إصرارٍ حاولت أن تخطو نحوه مرّة ثانية، وثالثة، ورابعة، وفي كل مرّة كانت تلك القوة الخفية تدفعها للوراء.

 تسارعت نبضات قلبها بخوف، تضاعف عندما شاهدت أمّ عدنان وهي تقف متصلّبة بالقرب منه، حافية القدمين، بشعر أسود متموج، وثوب أبيض فضفاض مهترئ، كشف عن ساقين نحيلتين غير متناسقتين، وأسنان صفراء مقززة، وعينان سوداوان، متورمتين ومتسعتين عن آخرهما، وعلى وجهها المائل إلى الزرقة الشديدة تلوح أمارات غضب شديد.

“لا، غير معقول، أنتِ.. أنتِ…..”

وبكل ما لديها من قوة، ودون أن تضيّع لحظة واحدة انطلقت نحو الشارع انطلاق السهم نحو الهدف، مستغيثة مذعورة، تهتف وتتشبث بالمارّة:

“ستقتلني، أنقذوني أرجوكم. أتوسل إليكم خلصوني منها، إنها تلك المرأة الشريرة، أم عدنان، أم عدنان الخبيثة تودّ قتلي، فليساعدني أحدكم، ساعدوني أنا أرجوكم”، وبكت بحرقة مرددة في نفسها: “ستقتلني تلك الخبيثة لا محالة”.

لبرهة قصيرة وقفت بعض النسوة من الجيران يصغين إليها وقد علت وجوههن علامات الدهشة والحيرة، ثم ما لبثن أن تركنها وأكملن طريقهنّ وهُنّ يتهامسنَ بخفوت: “هه، هذا غير معقول. لقد فقدت عقلها بلا شك؛ فكيف لامرأة ترقد في بطن القبر منذ عشرة أعوام أن تحاول قتلها، يا لها من مسكينة.”

الجميع يرمقها بدهشة ويعتبرها مجنونة أو واهمة.

عندما فقدت فيهم الأمل؛ جلست القرفصاء على الرصيف ترقب عودة زوجها لتخبره بما حدث معها عله يصدقها، ثم ألقت نظرة واجفة نحو الشرفة الأمامية للمنزل؛ فرأتها هناك واقفة بجانب عدنان، وهي تنظر إليها نظرات ثابته متحجرة، وعلى شفتيها تلوح ابتسامة ظفر واسعة.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights