الهاربة .. (قصة قصيرة)
مريم شملان
خائفة، غاضبة، حانقة حتى الموت، صابرة، راضية، مستكينة لأجل كل شيء، تَبكي في صمت، تتنفس وتكبت غَضبها الذي يثور في صدرها، لا تتحدث كثيراً، قد تجمعوا حول الموقد للتدفئة في ليلة شتاء باردة شديدة الظلام، وكانوا قد تمادوا باستفزاز “سلامة” بالحديث الذي يقلل من قيمتها، ونظرات العداء والسخرية تزداد، والضّحك باستهزاء قد علا وزاد، أخذت “سلامة” مكانها للنوم وباتت ليلتها حزينة.
وفي الصباح عند خروجها إلى الجِبال باكية لما يجري لها، وهي ترعى مواشي أهل زوجها الذي قد ذهب عنها بعيدًا للعمل، وتركها هنا لتواجه من لا يرحمون، أخذت تَمضي في الرعي وتسجع (بالتعويبة) لنسيان
من يكونوا أقرباء لزوجها وما تراه من سوء المعاملة.
يعود المساء ويأتي سواد الليل بكل حزن، بكل قسوة، يلفها الحنين إلى الأهل والبُعد عنهم، في تلك الخيمة تَعد “سلامة” وجبة العشاء، إنها ليلة قاسية بالبرد والصمت والغضب، إنها مستمرة ولكن ليلها طويل، وبه تجمّع الجيران “للسهر”، والذي يُعد من الواجب والعادات في تلك القرية الجبلية النائية، زيارات الليل وتجاذب أطراف الحديث وما يستجد من شؤونهم في أمر المواشي والمراعي، عادوا إليها بالسؤال عن مشوار الرعي الصباحي، وهي تتجنب الحوار والرد. انتصف الليل فعادوا الجيران إلى منازلهم، ولم يتبقى إلا أخ لزوجها الغائب؛ فهو يَلح عليها بالحديث، و”سلامة” قد أعماها الغضب ولا ترى أحد ولا تسمع أحد، فقط نظرتها موجهة إلى موقد النار الذي به كمية وفيرة من الجمر المُلتهب مثل النار التي بصدرها، شاحت بوجهها بغضب ولم تجد بقربها إلا مقلاة قد وضُعت بالقرب من الموقد، ومع استفزاز الذي بقربها وضعت المقلاة في موقد الجمر وملأتها جمرا ورمت بها من كان
قد أوقد قلبها ناراً وقلل من قيمتها. خرجت هاربة من الخيمة وبقيت مستمرة في الجري حتى ظهور شمس الصباح، وما كانت تعلم أين تتجه وليس لها دراية بالطريق الذي يعود بها إلى الأهل والنصرة والسند.
تظل سلامة طريقها وتشق خطواتها في الجبال والأودية هاربة من العقاب الشديد، تستمر في المضي دون العلم أين وِجهتها، فظلت تختبئ ليلاً وتمشي نهاراً، ورغم الخوف والجوع والعطش والجروح التي في قدميها الحافيتين تستمر في التقدم إلى حيث لا تدري ولا تعلم، ولكن في تلك الجبال اختفت “سلامة”، ولم يوجد لها أثر، رغم البحث إلا إنهم لم يجدوها، وتم نسيان “سلامة” للظن إنها قد أكلتها السباع وانتهت حياتها، ولكن “سلامة” وجدت نفسها بحماية البدو والرعاة، تذهب أينما يذهبون خلف المراعي والكلأ لمواشيهم. أكملت حياتها معهم وذهبت أينما ذهبوا أعوام طويلة، بقيت بغربتها حتى كانت سنة من سنوات الجفاف وعبور الرعاة مساحات شاسعة من الأراضي والنزول من الجبال إلى السهل لرعي مواشيهم الكثيرة، فقد كانوا في طريقهم يمروا على قرى ويمكثوا بها أيام وأسابيع أو يزيد، وهكذا مع التنقل قد مروا على تلك الديار التي كانت في يوم “لسلامة” العشق والحنين، وقد اقتربوا كثيراً من المنازل والخيام في تلك القرية، ونزلوا بالوادي الذي يتوسط تلك المراعي التي بها القليل من المنازل والمزارع من الجانبين والتي سكنت ذاكرتها وروحها.
نعم، قد عادت بالتذكر لسماع الأصوات التي تأتيها في ساعات الليل بالأُنس والغناء، ورؤية النسوة عندما كن يتجمعن في وقت الصباح. لم تتمالك “سلامة” نفسها إلا أن تقترب أكثر من تلك المنازل للسؤال عمن كانوا لها أحبة، واتجهت لمنزل صغير والذي كان يأوي فيه من تُحب ولها فيه أجمل أيام وسنوات عُمرها، وفيه الحنين الذي يسكن الروح وقلبها الذي اكتوى بالشوق لفراقه، تتقدم إليه بخطوات بها الخوف مما كان وما قيل، ولكن كان الحنين هو من يرسم طريقها لذلك المنزل الصغير لتقف وتطرق بابه ليأتيها ذلك الصوت وكأنه يخرج من بئر لشدة ضعفة، يصلها من مكان بعيد جداً، صوت وكأنه قادم من العمق. لم تستطع الانتظار لتدفع الباب ببطء وتمضي إلى الداخل لتجد سيدة وهي خاوية لا حراك لها وقد أكلها المرض، ولا تدرك لمن تراه أو من يتحدث إليها، إلا فتاة أتت على سماع الصوت ورحبت بها وأجلستها مجلس الضيف، و”سلامة” تسأل عن حال أهل الدار ممن كانت قد تركتهم في وقت قد مر عليهم بالنسيان؛ لتجيبها بأن الجميع فارق الحياة ولم يبقى إلا أنا وأمي. أدركت أنّ من يُحدثها ما هي إلا أبنة أخيها!
شربت ما كان لها من قهوة لكرامة الزائر وهزت الفنجان وأستأذنت بالخروج، وعادت لحياتها وآمنت بأن القدر له أحكامه، وبأن مشيئة الله وقضاءه هي أقدارنا. عادت أدراجها لتمضي بصمت، لتستمر برعي أغنامها وأغنام من كانوا لها عون، والتي عاشت بكرامتها بالشدة والرخاء مع الذين مازالوا لها السند والقوة ما دامت باقية على بساط الأرض.
1-التعويبة: هي فن من الموروث الشعبي العُماني، ويُردد من قبل الرعاة أثناء الرعي.