مُذَكّرات الأَعْمَش .. ( الجزء الثاني ) .. ليل لا ينجلي
سلطان بن سالم المعمري
“ الأَعْمَشُ: الفاسد العين الذي تَغْسَِقُ عيناه، ومثله الأَرْمَصُ والعَمَشُ: أَن لا تزالَ العين تُسِيل الدمع ولا يَكادُ الأَعْمش يُبْصِرُ بها”.
صديقي “أنير” [1].
منذ أن قررت الرحيل لعالم الأموات للقاء بها، هجرتني، وتركتني هنا لوحدي؛ لأعاني لوعة غيابك، وأشرب مرارة الحزن والفقد، تركتني هنا لأصارع مرضك، عقاقيرك، موتك؛ أيُّ صديقٍ يهجر أخاه عامين ولا يبْدَأُ عليّه بِالسَّلام!!
أخبرتك أني كالصمت هادئٌ جدًا، في أعماقي يصرخ القلق و يضطرب الحزن وأغدو كما ترى وحيدًا من أمسِي وظِلي، وحيدًا مني لا وجهة لديّ لأيّ حياة أخرى، أعيش حيوات اليأس واحدة تلو الأخرى وأنسى موتي .
أتذكر عندما كنت أفتش في غرفتي عن رسائلك ويومياتك التي تكتبها.
”من أنير إلى أريناس. [2]
أنه اليوم الأول من شباط.
عزيزتي الجميلة “أريناس” .
اليوم ذاهبٌ إلى طبيب النفسي لأتلقى العلاج، أحب الألتزام بمواعيدي وأحضرها في باكورة الصباح، الجو جميل هذا اليوم هواءه نقيّ
ونسماته بارده، أشعر بأني عصفور.. تحرر لتو من قفصه. أني سعيد جدًا، والسعادة تغمر روحي المقفرة، اسقاني غيّث حبكِ قطرات هواكِ، فلامس جسدي الأهيف وأحياني حباًّ وعشقاً، أخطُّ رسالتي هذه وكلي حياة، أن تهديك الحياة قُبلة الشفاء، أرنو إليك بخطواتي المرتجفة لا تصل بالمدى القريب، تصل بالمدى البعيد منك، هذا الصباح يعيد لي الكثير من الحرية والحب، انتشي بخمرك أثمل، اترنح، أقف، أسقط، لا أسقط، فأهوى في غرامكِ، فارسكِ الطريد قد أفنى في أرضكِ كجوادٍ جريح، ما أجمل أرضكِ وهي تستقبلني بكل رحابة حب، وأنتِ تظهرين بكل فتنة جمالك وحياؤك أمام عيني، انصت لصوتك الغنائي بكل تأملاتي، أسافر فيكِ وإليكِ، فأعود حاملاً أزهار الكامبيون كملاكٍ من الجنة، أهواكِ بملء الروح في ثمالتها، وبأصبوحة طائرٍ شجيّ أقامَ أغنية الوجد، أنتِ عشيرتي وشريعتي، ووطني الذي وهبني بهاؤكِ، لبستُ ثوبَ البياضِ ورفعتُ رايتك البيضاء على شاهد حبي، صوتكِ أمتزج بأغنيات النوارسِ، أقف أمامكِ وأنا أفكرُ كيف خلقكِ الإله بهيئة الفردوس، رائحة عطرك الأنثوي يفوح منك، تأسرني رائحته الذكية، وملامحك فاتنةٌ كآية الجمال. أحبكِ كثيرًا ”.
صحتي تتماثل في الشفاء، هذا ما أخبرني به الطبيب، وبأني سأعود إلى حياتي الطبيعية لأمارسها كما أريد.. ما رأيك في أن نخرج سويًّا إلى البحر!! فالبحر جميلٌ في فصل الشتاء. حبيبتي الرائعة أنا تائقٌ لقرائتك خطابي هذا، وأنتظر بفارغ الصبر رسالتكِ لا تطيلي عليَّ بالرد.
من أريناس إلى أنير.
لقد قرأتُ خِطابك. وأنا سعيدةٌ جدًا بأنك تتماثل في الشفاء. والخبر أسعدني كثيرًا .. عزيزي أنير لا أعلم كيف أصف لك شعوري وأنا أقرأ رسائلك المليئة بالحب والأمان، تغدقُ عليّ بكلماتك الرنانة العذبة، وأسحر بلغتك الجميلة، أيها (الملاك) أحب وجودي بجانبك، أنا تلك الفتاة التي ستستندك مهما عصفت بك الحياة، فلن أتخلى عنك مهما كلّف الأمر، أصبحت محبًّا للحياة يا أنير وهذا يشعرني بالرضا، زهرتك اليوم بدأت في كتابة روايتها الأولى، إنه أول طريقٌ لي في عالم الكتابة، متمحسةٌ جدًا أن أجعلك إحدى شُخُوص روايتي وبطلها، سأشارك مقدمتها عندما انتهي منها. صحيح تذكرتُ شيئاً فقدت عدت للممارسة هوايتي وهو الرسم فكما تعلم أني شغوفة كثيرًا بالرسم، يبدو أني أحب الحياة مثلك.
أيها الملاك ( أنير) أنتظر قدومك، فأنا أرغب بالذهاب للبحر والاستمتاع معك.
زهرتك الحبيبة أريناس. ”
أخذت الرسائل المدونة ووضعتها جانباً.. أعادني أزيزُ الصمت من خيالي لواقعي المرير.. تأملتُ الظلال المتحركة وهي تسبح في الفضاء بلا جناحين. تطوف في أرجاء غرفتي، وتمثلت على شكل “أريناس” رأيتها ممدودة على الأرض وبجوارها صديقي ظلانِ حميمان غرقا في بحرٍ من الظلام. سقطت أريناس من أعلى الجسر على قاربٍ كان متروكاً هناك ففارقت الحياة على الفور، بلغ أنير نبأ موتها، ساءت صحته كثيرًا عندما علم بأنها تركته للأبد.. وأن الموت كان صديقاً حميماً لها. لم يحتمل الوحية فخرج في ليلةٍ مظلمة، البدر فيها مكتملاً ومنعكساً على سطح البحر، ألقى بجسده في البحر، فابتلع القمر جسده، أراد الذهاب حيث ذهبت .. ذهابٌ بلا عودة.
كان بالإمكان معالجة الأمر دون أن ينتهي المطاف لكارثة مدوية على قلبي. أنا أخسر جميع من ألتقي بهم؛ كأني شخص مشئوم، داء الشؤم، ولعنةٌ تصيب كل من أحبه بالموت، هكذا دونما عنوان وسبب، أشعرُ بأني حزينٌ ووحيد، كل من أحبهم رحلوا أحبائي وأصدقائي وأنا. أرى اسمي في قائمة الأموات، قبري يتسع لهم جميعاً ولا يتسع لي.
نباح الكلاب يخترق جدار الصمت، فيصبح نباحها عواءً لا يتوقف، استيقظت من تعبي بعد أن خذلني جسدي ونمت في مكاني، فركت عينيّ الفارغة لأجدني ظِلاً لا شكل له، ليس حولي أحد كنتُ مذهولاً حقاً!! أين أنا؟ هل فارقت الحياة؟ تزداد أمواج الظلام بقوة، أحدهم يجرني إلى الأعماق لا استطيع التنفس ولا الحراك .. ينهار ظلي ببطء، تتصلب أنسجة ظلي فأتلاشى في نور الصباح.
فإن كلمتي أنير وأربناس بلغة الطوارق وتعنيان بـ:
[1]: ملاك.
[٢]: أريناس: اسم وردة جميلة تدعى le’o ferre’