الثلاثاء: 7 مايو 2024م - العدد رقم 2131
القصص والروايات

الغريب ..

مريم شملان

صوت من بعيد، يتردد، يملأ المكان، يَهزّ القُلوب، يؤنس وحشة الظلام الدامس في ليالي الشتاء.

ويُداعب الخيال في أيام المطر والسكينة، وطَرباً على هفهفة نَسائم الصيف “صوت أَلروغ” القادم من على”تلة مرتفعة”، والتي يَسكن فيها “الغريب وزوجته” وقد اتخذوها مكاناً لهم، وتحت التلة جرف وادِِ عَميق، حيث تنمو من خلاله شجرة الغَاف اليانعة بالخضرة، العالية طولاً، وقد غَطّت أغصانها الكثيفة المكان، وأوراقها احتوت تلك التلة، وأصبحت كالخيمة ملتفة بِحجمها الكبير لمساحة التلةالتي تعلوُ الجرف، وتدلت أغصانها حيث سكنوا، وجُذوعها من الداخل إلى الخارج امتدت لتكون لهم غِطاءً، واضعين “السناح” الذي يقيهم المطر والبرد في موسم الشتاء، ومنذ أن أتوا إلى هذا المكان منذ أعوام كثيرة مضت، وقد أَلِفُوا الناس هنا وعَاشوا بأمان.

كل صباح يخرج الغَريب لِكسب العيش، من شحذ سكين أو منجل، أو إصلاح حلية من ذهب أو فضة

أو من نحاس، والعوش تجمع و تبيع الخَرز الملون، والأدوية للواتي أنجبن أطفالاً مؤخراً. وهي التي اعتادت على صناعتها منذ نعومة أظفارها عندما كانت هناك في قريتها التي تركتها وتركت كل شيء، وأتَت هاربة منذ زمن بعيد، طلباً للعيش، ولقمة هنيئة، ولتنعم بالراحة مع زوجها الغريب، في القرية المُحبة بأهلها الطيبين هنا.

وقت الضُحى والعوش تتأرجح بأرجوحةٍ قد ربطت حبلاً بأغصان الغافة العتيدة، وصدحَت بصوتٍ عذب، مليء بالشجّن والحَنين والشوق للديار.

والغَريب يدفعها بِكلتا يديه ويتركها، ليعود ويُداعب الروغ بأنامله السَمراء، والتي قد أكَسبت أظافره لون الفحم من العمل على نفخ الكير والجمر الذي يعمل عليه بالحدادة والنقش

وإصلاح ما أتلفهُ الزمن.

والروغ يُزيل هموم من بهم هيام وعُشق، ويصلهم إلى من يُحبون ويَحلمون بهم، أو من بهم حنين بغربة، قد يعود بهم الغناء والنغم ليوقظ قلوبهم الباكية بدموع الشوق والحنين إلى ديارهم.

وفي الليالي الطويلة، والنفُوس يُبكيها الشوق المُلتهب، أهل القرية ينتظرون الغريب لِيُسكن جُروحهم قبل نومهم، والذي أداعتادوا سماعه في أوقات السهر والراحة، وفي أفراحهم ومُناسباتهم، قد أصبح الغريب وزوجته العوش مَحطّ اهتمام ومحبة واحترام أهل القرية، وأمست الليالي الجميلة وأعراسهم لا تُدار إلا بحضور الغريب والروغ الذي يلعب به، مع تمايل جَسده النحيل، يدور بجسده نزولاً إلى الأرض، والتدحرج لمسافة مع الوثب إلى أعلى عائداً يُكمل التمايل على أنغامه.

في ليلة شتاء باردة، وأهل القرية ينتظرون الغريب

أن يطربهم في مخادعهم، ولكن طال الصمت، فأتوا بأعذار له على أن تكون شمس الغد تأتي بما خبأته ليلة باردة عن الغريب والعوش، ولكن الغريب والعوش قادهما الشوق للديار ليلاً، للأهل، للأخيار، حنينهما قد مدّ جسر العودة إلى أحبتهما، أو دروب استوطنت قلبيهما، وها هي شمس الضُحى تؤكد أن الغريب والعوش غادرا القرية بصمت، كما أتوا إلى هذه القرية بصمت، تاركين مكاناً فيه دفء الأحلام، وجمال الأيام، ومضيا حيث العودة، أو إلى وطن جديد لِيختاراه في هذه الحياة، بالبساطة والحُب والتسامح، فأقدارنا هي التي تضَعنا حيث تَشاء، ونحن للطاعة نعم، وللمُضي لا حيلة لنا في ذلك.

1_الروغ “ألة نفخ من قصب” نبات ينمو بمناطق معينة بالأودية.

 2_السناح “غِطاء يُنسج من الصوف”.

 

 

 

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights