2024
Adsense
قصص وروايات

مُذَكّرات الأَعْمَش ..( الجزء الأول ) .. ليل لا ينجلي

    سلطان بن سالم المعمري

“ الأَعْمَشُ: الفاسد العين الذي تَغْسَِقُ عيناه، ومثله الأَرْمَصُ والعَمَشُ: أَن لا تزالَ العين تُسِيل الدمع ولا يَكادُ الأَعْمش يُبْصِرُ بها”.

أغبش المساء، أزداد حلكة وخوف، وأفل بصيص ضوء القمر الساقط على زجاج نافذتي، تساءلت لماذا يهربُ النور من لقائي الحتمي له؟ أهو خائفٌ مثلي؟. ولدت بعينانِ منطفئتان بريقهما، يخفقان، يتَلألَآنِ في الظلام كعيني هرّة، وجسدٌ هزيل، أجعد الشّعر، ووجهٌ سمح سخيّ فيه كرامات الأنس والبؤس، وفي كل صباحٍ أخرجُ للعالم الذي أراه ولا يراني، أرتادُ المقهى ذاته منذ قرابة العشرين عاماً، المقهى المركون في زاوية آخر الشارع، أحتسي الشايّ مع صديقي الذي مات منتحرًا قبل عامين. قال لي: أريد الذهاب إلى السماء لأراها. لم أكترث لكلامه وقتها، وظننته ممسوماً بهلوساته، وتعاطيه عقاقير مهدئة لأعصابهِ التالفة أو ما بقيّ منها حيًّا. أخبرته أن لا يخف سيكون كل شيءٍ على ما يرام!! في كل مرة نتقابل فيها يبدأ الجلوس بمحذاتي يتأملني، ويشرع بالإنصات التام لسماع مذكراتي اليومية وقصائدي الهزلية الساخرة، فتتبدى في داخلي سعادة عارمة وأنا أنقل الكلمات من المعنى الحسيّ إلى كائنٍ غادر الوجود بمحض الصدفة، وكما أنني خائف من الموت، وتغمرني رائحته الزكية، ناشرًا عبقهُ الزيتوني، تمتعض الحياة مني فتغادرني لوحدها وبمشيئتها، يختارني وحيُّ الخوف، ” الخوف من الموت هو الموت”. يقطع حبل أفكاري، يصرخ بأعلى صوته “جميلةٌ قصائدك”. يكيل عليَّ بعبارات الاستحسان والمدح، تغمرني الراحة وأضحك معه وأقول في سري: أني بلغتُ منايّ؛ إنها نالت أستحسانه وإعجابه.

حلَّ الصمت وكسر حاجز الضوضاء المكان، كان ميعاد الليل يسابق عقارب الساعة، حازماً صمته، اعتلى سلّم السكينة ليهبَّ بالمكوث أطول فترةٍ ممكنة عهدًا للإتفاق المبرم بيني وبينه، وأن تبقَ عينايّ مغلقةً لكي لا يتسلل فيها نور الله، إنه القربان المُشرّع لوصية الناموس، رمى على عينيّ قميص”يعقوب” حتى أسودت عينايّ وأنا كظيم، يتوسطهما هوة عميقةٌ من الخواء. مشيّت ببطء لغرفتي، أتحسس في طريقي الأشياء من حولي، ولكن سرعان ما أتعثر عند أول خطوة أخطوها، فأسقط صريع الصمت، أسعى جاهدًا بالأستناد على الجدار لأنتشل جسدي من الأرض لكي لا يبتلعني الظلام، كعيني التي سقطت في بركة من السواد وغرقت، وانطفأت للأبد، فأنا لا أودُّ أن يغرق جسدي معها، خوفاً من أن تلاحقني أسراب الظلال، وأسقط في أشْراكها، أتحسس بيدي الطريق مجددًا.. تراني الجمادات وأنا أحثُّ الخطى بحذر، بمهل، تظن إنه يصعب عليّ تحديد أماكنها ورؤيتها، لكنني أراها كما تراني هي جماداً، منضدة خشبيّة في منتصف غرفة المعيشة، وأرففٌ معلّقة في المجهول بين الأرضية والسقف، وكتبٌ مكتظة، متكدّسة متراكمة فوق بعضها البعض حتى تكاد عناوينها أن تختنق.. وممرٌ طويل في آخره سجني. منفايّ.

أمشي ببطءٍ شديد، محترساً الأصطدام بباب غرفتي كعادتي المتكررة بنسيان وجوده، ولكن الباب هذه المرة خدعني، فعند أقترابي منه انفتح على مصراعيه، وأخترق جسدي بحرٌ من الظلام.
وصلتُ وجهتي أخيرًا، جلستُ جلسةً- مُسْتوْفِزَاً القعْفَزى- مستشعرًا صوت الصمت وهو يداعبُ أذني بِخفة، أنفاسي متسارعة، ونبضات قلبي تكاد تخترق قفصي الصدريّ، كم مرة طرأت لي فكرة هروبه من صدري ليتوارى وراء…!! ساخرًا مني لعدم قدرتي في تحديد مكانه لأهمَّ بالبحث عنه، أظن إنها فكرةٌ سخيفة.. يمتلأ النسيان برائحة الذكريات العالقة، يبعثرها علّها تتحرر قيودها من الأسر، فتهربُ من سطوة الماضي والحاضر إليّ أنا.. وأنا لا أهرب لأي مكان خوفاً من أن لا أجدني عندما استيقظ.

قضَّ مضجعي الأرق أمسى صاحباً وخليلا، صديقٌ دائماً لا يتركني لأهنئ في النوم أو لأكسب بعض الوقت في سبات لا يتعدى الساعة، يجلس الأرق على صدري بكل ثقله، كما يكتظ العالم اليوم أفكاري اللامنقطعة عنه، يناولني جرعات من الظلام أفرغها في عينيّ قطرة.. قطرة. يتسع معها محيطُ اللّيل أفلاك البروج. ها أنا ذا منكباً بجلستي أتحسسُ أشلاء الأوراق المتكورة كقذيفة مقذوفة من مدفع، أفكُّ لثماها وأعريها كما يتعرى الليل بنور الشمس، أبسط الأوراق على جلد الأرض وأفرشها، وأمسك القلم بيدين مرتعشتين
وأكتب.. أكت… ب!!!
يومُ الأثنين، الساعة: الثانية وإحدى وعشرون دقيقة صباحاً.
السماءُ صامتة لا تبكي ولا تبدي أية ردة فعل أتراها عاجزةٌ عن الكلام؟؟ الظلام يملأ المكان ويلتهمه بشراهة؛ كأنه وحش “بهموت”

لا أرى شيئاً سوى النور الذي يسطع من قلبي يقودني حيث لا ترغب قدماي بالمسير نحوه. أسيرٌ للأمكنة التي يرتادها قلبي بحثًّا عن صديقي بين الحضور، صدري مكتظٌ بقيامات الغرباء، أسمع أنينهم وشكواهم ومصائبهم؛ كأن جميعهم أنا. أتمنى لي القدرة على عيش حياة هادئة فارغة من البشر، الطير، الحجر لا أحد هنا سوى أنا. حياةٌ تضحك لي، فينفجر نور الصباح في وجهي المُباد.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights