التعليم والمسؤولية الاجتماعية
طلال بن حمد الربيعي
ظهر مفهوم المسؤولية الاجتماعية في أوروبا بدايات القرن التاسع عشر كضرورة حتمية نتيجة التطورات العلمية والمعرفية المتسارعة التي شهدتها تلك الدول، وانتشر فيما بعد ليصبح ضرورة إنسانية وواجبًا أخلاقيًا ومبدأً وطنيًا أصيلا، فلم تعد خيارًا للأفراد والمؤسسات المختلفة؛ ولكنها باتت أمرًا حتميا، فالمسؤولية المجتمعية باختصار هي «التزام الفرد تجاه مجتمعه والمساهمة في تحقيق التنمية المستدامة في مختلف المجالات، والعمل على تحسين نوعية الظروف الحياتية والمعيشية بشكل عام».
وهناك عبارة دائمًا ما تردد وهي؛ “أن التعليم مسؤولية اجتماعية أو قضية مجتمع قبل أن تكون مسؤولية جهة بعينها”. تذكرت هذه العبارة وأنا أقف على الجهود التي بذلها مكتب محافظ شمال الباطنة، وبالتحديد في ولاية السويق، وعلى رأسهم سعادة والي السويق، الشيخ عيسى بن أحمد المعشني، خلال استعدادات المدارس لبدء العام الدراسي الجديد ٢٠٢٣م، وذلك من خلال تسخير إمكانيات بلدية السويق ومكتب الوالي للمساهمة في تنظيف المدارس وتقليم وإزالة بعض الأشجار في أفنيتها، وتهيئة المواقف الخارجية بها، مشاركًا ومعززًا الجهود المضنية التي قامت بها المديرية العامة للتربية والتعليم بمحافظة شمال الباطنة، وعلى رأسها الفاضل الدكتور المدير العام وإدارة التربية والتعليم بالسويق، والتي لم تألوا جهدًا في متابعة توفير جميع الاحتياجات الأساسية لمدارس المحافظة.
كل هذه الجهود المشتركة ساهمت في إنجاح العام الدراسي الذي مر بيسر وهدوء. طبعًا هذه الجهود تشمل جميع الولايات بالمحافظة، إلا أنني أتحدث هنا عن ولاية السويق كمثال، على اعتبارها من أكبر ولايات المحافظة مساحة وكثافة، سواء من حيث عدد المدارس (بلغت هذا العام ٥٥ مدرسة)، وكذلك بالنسبة لعدد الطلاب الذي يقارب( ٤٠ ألف) طالب وطالبة بمختلف المراحل الدراسية.
فمثل هذا التكاتف والاهتمام الذي تتلقاه المدارس من مختلف مؤسسات الدولة من شأنه أن يكون كفيلًا بخلق نمطية ومفهوم جديد يجعل التعليم مسئولية الجميع وقضية مجتمع.
ومهما يكن من تعريف للقضايا الاجتماعية فإنني أرى أن التعليم ومشاكله وقضاياه من أهم القضايا التي يجب أن تطرح؛ فالتطوير الحقيقي للتعليم لا بد أن يتزامن مع تكثيف الوعي المجتمعي وخلق ثقافة يكون فيها أهمية قصوى في الجانب الاجتماعي، وغير ذلك، فهو مجرد دوران في الحلقات المفرغة، وبالطبع مما لا جدال فيه أن هناك تراتيبية تنظيمية وتفاوت في هذه المسؤولية، فالحكومة ممثلة بوزارة التربية والتعليم هي المسئول الأول ولكن ( ليس ) الأخير؛ فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يرتقي التعليم سواء المدرسي أو الجامعي بأوامر حكومية وتوجيهات وزارية، وخطط وبرامج بمعزل عن قناعة وتبني مجتمعي بأهمية تلك القرارات والخطط والبرامج، وهنا يأتي الدور الجوهري للفعاليات المجتمعية ومكاتب الولاة في المحافظات ومجالس أولياء الأمور باعتبارهم شريك أساسي.
فاليابان على سبيل المثال بعد الحرب العالمية الثانية أعادت بناء قدراتها العلمية والاقتصادية من خلال منظومة اجتماعية تعليمية متقدمة، أعتبرت التعليم قضية وطنية اجتماعية غاية في الأهمية؛ مما جعلت العالم مندهشًا أمام إنجازاتها في كافة المجالات وفي وقت قياسي، ومن تجربتها أخذت كثيرًا من الدول في جنوب شرق آسيا أو ما يعرف باسم (آسيان) وبدأت عجلة التنمية والتطور في تلك البلدان رغم محدودية إمكانياتها.
تذكر الدكتورة هند الشوربجي في كتابها “التعليم والمسئولية الاجتماعية الواقع والمأمول” الصادر عن الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة.. “أنه إذا كانت المؤسسات التعليمية لديها مسئولية اجتماعية تجاه المجتمع؛ فإن المجتمع بمؤسساته المختلفة مسئول أيضًا عن العملية التعليمة، سواء أكان ذلك في المدارس أم في الجامعات”.
“ومن ثم فإن العلاقة وثيقة ومتبادلة بين المجتمع ومؤسسات التعليم، ولا شك أن المستحدثات التربوية التي أفرزها عصر المعرفة قد فرضت على النظام التعليمي بكل مكوناته تحديات حقيقية؛ من أهمها تغير دور مؤسسات التعليم، وتطور نظم الإدارة التعليمية، وأدوار المعلم، والمناهج الدراسية لمواكبة هذه المستحدثات”.
وتشير إلى أمر في غاية الأهمية وهو : ” أن كل هذه التحديات التي تواجه العملية التعليمية تفرض على المؤسسات المجتمعية أن تتولى مسئوليتها تجاه العملية التعليمية”.
فالتشجيع على الشراكة المجتمعية وتحمل المسؤولية بين المجتمع والمدرسة ومختلف المؤسسات في الدولة من شأنه إعادة تشكيل الوعي الجمعي لدى أفراد المجتمع لمرحلة نحتاجها خلال الفترة القادمة، لنرتقي بالعمل التربوي وبمجال التعليم وأن نضع دائمًا في أذهاننا ونحن نشرع أقلام النقد أن التعليم ليس مسؤولية جهة واحدة فقط، وإنما هو مسؤولية مجتمعية..
لقد أصبح من الضرورة بمكان أن نطور مفهوم المسؤولية المجتمعية ومن بينها التعليم باعتباره قضية مجتمع في المقام الأول، من خلال تبنيها إعلاميًا وثقافيًا ومؤسساتيا، والاهتمام بالأسرة، وهي أساس المجتمع والركن الأول في غرس قيم المسؤولية المجتمعية لدى الأبناء، لذلك لا غرابة أن نجد معظم الدراسات المعاصرة في المجال التربوي تتفق على أهمية الثالوث: (المدرسة والطالب والمجتمع)، الذين يشكلون معاً مثلث العملية التعليمية، التي يكفي أن يختل أحد أضلاعها حتى ينقلب رأسها على عقب، نظرًا لتكامل الأدوار التي ترسم جميعها مدى نجاح تلك العملية مع نهاية كل عام دراسي.
إن هذه الخطوة مهمة جدًا من وجهة نظري لنتحرك من دوامة الدوران في ذات المكان، ولنستطيع أن نشق طريقنا إلى التقدم والرقي ونصنع تنمية حقيقية مستدامة، وأن نضع أقدامنا على أرضية صلبة تحركها قاعدة مجتمعية واعية بمسؤولياتها رغم التحديات الكثيرة التي قد تشكل عائقًا في بعض المراحل، ولكن من يقرأ التاريخ جيدًا يجد أن الدول والشعوب لم تنهض إلا من خلال تضحيات أبنائها وعزيمة قادتها نحو التغيير والتطور.
وفي الختام كلمة شكر لا بد منها لجميع منتسبي المجتمع التعليمي، وشركاء التعليم باعتبار التعليم مسئولية الجميع…