إني مهاجرة (ج1)
خالصة السليمانية
إلى كُل العابرين في طريقنا مهما اختلفَ دينهم، أعمارهم، وجنسهم، إلى تلك الابتسامات العابرة من المتفائلين في الحياة العاملين بسُنة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حين قال: [تبسُّمُكَ في وجْهِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ وأمرُكَ بالمعروفِ ونَهيُكَ عنِ المنْكرِ صدقةٌ وإرشادُكَ الرَّجلَ في أرضِ الضَّلالِ لَكَ صدقةٌ وبصرُكَ للرَّجلِ الرَّديءِ البصرِ لَكَ صدقةٌ وإماطتُكَ الحجرَ والشَّوْكَ والعظمَ عنِ الطَّريقِ لَكَ صدقةٌ وإفراغُكَ من دلوِكَ في دلوِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ)- رواه الألباني في صحيح البخاري.
شُكراً لكم لأن الروح سمَت بمواقفكُم الرائعة، ونفض القلب غُبار الهم والوجع والحزن والحيرة والتيه والتخبُط في الحياة، إلى أولئك الذين استطاعوا التعايش على إختلاف أديانهم وألقوا خُزعبلات الساسة ورائهم، وبحثوا عن الحقيقة لتطمئن قلوبهم، إلى الصابرين الذين كانوا مع الخالة صفية، وإلى قوة الفتاة التي استمدتها من فرسانها في الحياة، وإلى المعلمين في هذه الحياة الطفلين أحمد وأخوه، وإلى بطلي الذي أيقظني وأنقذني…
“كنت أسير في الشوارع الواسعة المزدحمة، وأختفي تارة في الأزقة الضيقة، كنت تائهة على الرغم أنني أعرف الشوارع والأزقة شبرًا شبراً، أمشي على غير هدى، أبحث هنا وهناك بعينيي السوداوين عن إشارة توقف فوضى حواسي ولكن لا جدوى! فوجوه البشر المارة لم تخبرني بشيء؛ بل ما زال ذاك الشعور المستعمر في كياني باقي، بل كلما كبرت يحتل جزءً جزءاً. تهت حتى تجاوزتُ، ولولا شاب في العشرين من عمره شد يدي بقوة نحوهُ لكنت في عداد الموتى فقد كادت سيارة مسرعة تصدمني”. أنا “إيما” وهذا قدري.
حينها قلت لذلك الشاب: “شكراً لك لم أكن منتبهة”.
فرد: “هذا واضح عليكِ”.
نظرت إليه مدققة في ملامح وجهه.
فقال: “أيما انتبهي المرة القادمة” ورحل عني.
مرّ أسبوع على هذه الحادثة.
– قالت العمة: “أيما” هل يمكنك أن تنزلي وتساعديني في تحظير العشاء فالضيوف على وشك الوصول
– بالطبع يا عمتي يمكنني ذلك.
– شكرا لك يا “إيما”. ثم دخل الزوج عليهن وسأل: “هل كل شيء جاهز”.
– “نعم يا زوجي كل شيءٍ كما تريد”
– العم: “إيما”
– نعم يا عمي
– اذهبي وبدلي ملابسك فالضيوف على وشك الوصول
– حسنا يا عمي
كان الضيوف في غاية اللطف، أحاديث قبل العشاء وأثناءه وبعده، يتخلله ضحكات تصدر من الجميع على الرغم أن “إيما” في الرابعة والعشرون من عمرها، وأحاديث الضيوف كانت ممتعة وهي تعرفهم من قبل إلا أن ذاك الشعور راودها في تلك اللحظة فما زالت تشعر أنها غريبة وسط هؤلاء الناس!
مكث الضيوف ساعات ثم رحلوا صعدت “إيما” إلى غرفتها، بدلت ملابسها، تقلبت على سريريها، لا تعلم ما الذي يؤرقها! وكالعادة شربت قرص منوم، ثم نامت.
في اليوم التالي جهزت نفسها للخروج من المنزل
وناداها عمها، فجلست معه، وقال لها: “اسمعي، عليكِ أن تقرري بشأن ذلك الموضوع الذي تحدثنا عنه سابقاً، أمامك أسبوع فقط لتتخذي قرارك”.
ثم استقلت “إيما” سيارة أجرة متجهة إلى أحد الأماكن؛ لكن السيارة كانت بطيئة جداً، لا تكاد تسير من الازدحام، نزلت من السيارة مفضلة السير على الرصيف، لطالما أحبت المشي، ثم شاهدت حادث أمامها بعد بضع خطوات، فالحافلة تضررت كثيراً من الجانبين كأنها احتكت بقوة على أحد الجدران وكذلك المقدمة اصطدمت بقوة أفقدها توازنها، ناهيك عن الناس الذين سقطوا جرحى على إثر الحادث.
توقفت لتشاهد هذه الكارثة، فعلى الرغم من استيائها وحزنها على ركاب الحافلة بين جريح سالت الدماء من جباههم وآخرون لم يستطيعوا الحراك تناثروا في الشارع يسرع إليهم المسعفون إلا أنها جالت بنظرها هنا وهناك، وتعقبت عينيها شاب يتسلل بخِفية بين زحام الناس، تهيأ لها أنه الشاب الذي أنقذها، وكيف لا تعرفه وقد دققت جيداً في ملامحه ذلك اليوم!واستطاعت التسلل وسط الحادث دون أن يمنعها أحد لأنها لبست رداء طبيب واتجهت إليه. كان يحاول الهروب من وسط هذه المعمعة على الرغم من جروحه البليغة، ثم نادته: “أنت يجب عليك أن تتلقى العلاج”. استدار ناحيتها وسقط أرضًا، فما أن رأته ساقطاً همّت بالصراخ لطلب المساعدة فأوقفها بأنفاسه المتبقية لديه. همس إليها: “ادخلي يدك في جيبي ستجدي ورقة”. ترددت قليلاً ولكنه أصرّ وقال لها: “لا وقت لدي أرجوك اسرعي”. أدخلت يدها وأخرجت ورقة من جيبه، ثم ناولته إياها فلم يمُد يده ولكن أخبرها: “يجب أن تذهبي على العنوان الذي سأخبرك به وتبحثي عن رجل اسمه “ألكس” وتعطيه الورقة، أرجوكِ أوصلي الأمانة”.
فارق الشاب الحياة وهو بين يديها المتلطخة بالدماء ، أتى بعدها ممرض حاول مساعدته، ثم سأل “إيما” عن حالته ظنًا منه أنها طبيبة، فقالت: “إن حالته سيئة”. حاولت أن لا تظهر وجهها، نهضت وقالت له: “اهتم به حتى أطلب المساعدة”. ناداني: “أيتها الطبيبة فارق الحياة وهو مصاب بطلق ناري”. لم تستدر نحوه وخلعت الرداء وألقته أرضًا ثم توارت بين زحام الناس راجعة من حيث أتت.
لم تتردد “إيما” في مساعدة الشاب كرد للمعروف الذي قدمه حين أنقذها، عادت إلى البيت في الساعة العاشرة مساء، ولم تذهب إلى العنوان الذي أخبرها به الشاب وإنما غلبها في ذلك اليوم أفكار كثيرة وخاصة ما قاله الممرض عن وجود طلق ناري في جسده. ألف سؤال وسؤال! أين وكيف ومتى ولماذا أأرقتها كثيرا تلك الأسئلة؟! حتى قرص المنوم لم يستطع أن يعطي مفعوله كعادته.
في صباح جميل هذا ما شعرت به العمة “هيلينا” وهي تحضر نفسها للذهاب إلى الكنيسة.
– صباح الخير
– صباح النور أأنت ذاهبة إلى مكان ما
– نعم لدي مشوارا ربما سأتأخر، أين عمي؟
– كعادته منهمك بقراءة الصحيفة
خرجت “إيما” من المنزل قاصدة العنوان الذي أخبرها به الشاب، كانت متيقنة بأنها ستجده بسهولة لأن لديها الخبرة الكافية، حتى تلك الطرقات الخانقة البعيدة عن منزلها، ولكن كانت تخشى أن لا تجد “ألكس” لأنه أخبرها ربما لن تجده في نفس العنوان ومع ذلك ركبت سيارة الأجرة ووصلت إلى وجهتها.
مشيت خطوات عديدة قبل أن تصل إلى المكان المحدد الذي وصفه الشاب، فلم تجد مكان حلبة المصارعة، كان الهدوء يسكن، لا ضجيج حتى الأشباح لا أظنها تسكن هنا!