هُنا ينام جنديٌّ متعَب
سلطان بن سالم المعمري
الحربُ الرحيمة الودودة تملَّصت بكامل عُنْفوانها عن سحق ظلّ جسد جنديٍّ جريح، أدركَ بعد برهةٍ من الزمن أنّ بقاءه على الأرض يعجّل الدماء للخروج من سجنها منه، وتصطبغ على ملابسه الداكنة، فيكون غيابه الأبدي مأتم الموت.
قطرات الدماء تلتهم رجله، تحرثُ أخادِيد عميقة لا يسدُّ فراغها الهاوية.
فزَّ الجرح الحزين، انْبجَس كشلال، كنهرٍ أحمر، رأى سِرب الغربان تحوم في الأفق، احتشدت بجيشٍ مهيب حوله، ظنّاً منه أنها أتت لتهبه الخلاص، الخلاص! راقهُ النظر وهي تنقرُ بمناقيرها على رجله لاستئصال قدمه الجريحة، كل نقرة منها تقضمُ أثر المشي السحيق، رأى رجله تجرُّ بقوة كأنها تريد التنصّل من جسده الضعيف، لوّح بسلاحه يُمنةً ويُسرة علّه يبعدها عنه، لكنها أبت إلاَّ أن تستتر بغطاء الضحيّة، لوّح بحركات واهنة عاجزة كما يلوّح الغريق بيده للموت.
سكنْ دبيب الألم المنزوع، خاض نزعته الأولى بصبر، بمهل لم يشعر بأيّ شيء، لا شيء.
كان يفاوض الوحدة في كل قرارته، واليوم يفاوض الموت ليصبح لاجئاً.
ظنَّ بمقدور الموت أن يعطيه الخلاص الوحيد والهبة السخيّة للقربان: الحرية.
الحرية مرثاة العبيد الأشقياء، خطيئة الآلهة الكبرى بخلق الإنسان، كانت المفازة الأخيرة للنصر والفرج، لذة الشهوة اللاذعة لناموس السخط، تذكّر ناموس الحرية، ما تزرعه بفعل خطاياك تحصده بمعول الزمن. فلا تنال أكثر مما تُعطى.
اتسعت نيران الرصاص هنا وهُناك، جرَّ جسده المتلطخ بالعجز الكسير، تشبّث بالأرض الحاضنة الحنونة، دفع بكل ثقل يديه على الأرض لرفع جسده الهزيل، ولكن الخواء السحيق تحته أعمق وأدهى نكاية به.
خانته القوة المتصلبة الثائرة، سقط، بكى بحرقة حتى سمع نحيبه الصمت، فاحت رائحة الهزيمة النجسة، سبقته بمراحل السير، حثَّ الغربان على مواصلة النقر.
سَرت بداخلهِ الوحدة وهي تطرق سِحْنته العابسة، اِسْتأْثرَ بالشِّعر، بأغنية الحرب والربّ.
بقي مغموراً بالنجاة، الأمل، الحياة، لا تنثني إرادته المطلقة، ظِلّه امتنع عن السير وراءه، كان شخصاً يجهلهُ، يثقله، يصيبه الأرق، نام جسده وبقي ظِله يحرسه، صاحَ: هُنا ينام جنديٌّ متعب.