مفهوم مهارة الاستماع في اللغة العربية
الباحثة / سامية بنت محمد البحرية
إِنَّ من نِعَمِ الله تعالى على الإنسان أَنْ جَعَلَ له لُغَةً يتحدث بها ويُعَبِّرُ عن حاجاته ومشاعره ومطالبه، وبها يتواصل مع أبناء جنسه، وحتَّى يستطيع المرء التحدث والكلام لا بُدَّ له أَنْ يستمعَ ويُنْصِتَ، فنعمة السَّمع التي وَهَبَها الله تعالى للإنسان هي من أَدَقِّ وأَرْهَفِ الحواسِّ وأكثرِها تأثيرًا بين قوى الإدراك والفهم؛ لذا تُعَدُّ رُكْنًا وعامِلًا هاما في عمليات الاتِّصَال البشري؛ فقد أَكَّدَتِ الأبحاث العلمية أَنَّ السَّمْعَ هي الحاسَّة الأولى خَلْقًا في جسم الإنسان، ومنذ أَنْ كان جنينًا يستطيع أَنْ يُمَيِّزَ صوتَ أُمِّهِ ويستمع للأصوات من حوله، وعندما يخرج إلى الدنيا فإِنَّه يظلُّ يستمع ويتكون لديه المخزون اللغوي قُرَابَةَ سبعِ سنوات من عُمُرِهِ، فهذه المدة الزمنية تُشَكِّلُ لُغَتَهُ. والمُتَدَبِّرُ لآيات الذكر الحكيم يَجِدُ أَنَّ حاسَّة السَّمْع جعلَها الله سبحانه وتعالى الأولى بين قوى الإدراك والفهم لدى الإنسان؛ فقد قَدَّمَ الله -جَلَّ وعَلَا- حاسَّةَ السَّمع على حاسَّة البصر في أكثر من سبعة عَشَرَ موضِعًا، وبَيَّنَ أهمية الاستماع والإنصات، وفي قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف204)، فَهُنَا يأمرُ الله تعالى المسلم أَنْ يُنْصِتَ .كما يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل78)، فالسَّمْعُ قُدِّمَ قبل البَصَر، وفي قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء36)، فقد جاءت هذه الآيات لِتُؤَكِّدَ الإعجاز القرآني الذي أَثْبَتَهُ العلم الحديث أَنَّ السَّمع وعُضْوَهُ الأُذُن خُلِقَ قبل حاسَّة البَصَر وعُضْوَها العين. إنَّ جُلَّ ما يفعله الإنسان هو سماعُهُ واستماعُهُ لِمَنْ حولَهُ، لذا وَجَبَ الاهتمام بتعليم مهارات الاستماع وتدريب الأطفال منذ نعومة أظفارهم، بل أصبحتْ هذه المهارات جزءًا لا يتجزَّأ من برامج تعليم اللغات في الدول المتقدِّمة، وفي بعض الدراسات والإحصاءات تَبَيَّنَ أَنَّ 30% في المحادثة، و16% للقراءة، و9% للكتابة، و45% للاستماع، كما أَكَّدَتْ دراسة حديثة أَنَّ المتعلمين يقضون ساعتين ونصف الساعة من كلِّ خمس ساعات في اليوم في الاستماع. وفي الترتيب الزمني للمهارات اللغوية (الاستماع والكلام والقراءة والكتابة)؛ فَإِنَّنَا نُؤَكِّدُ أَنَّ الاستماع هو الأسبق وشَرْطٌ أساسٌ لِلنُّمُوِّ اللغويِّ بصفة عامة وفي تعلُّم اللغات بصفة خاصة، والناس يستخدمون الاستماع والكلام أكثر من القراءة والكتابة.
وقد صَوَّرَ أَحَدُ الكُتَّاب هذه الأهمية في الاستخدام بقوله: إِنَّ الإنسان المثقَّف العادي يستمع إلى ما يُوَازِي كتابًا كلَّ أسبوع، ويقرأ ما يُوَازي كتابًا كلَّ شهر، ويكتب ما يُوَازي كتابًا كلَّ عام. وأهمُّ رُكْنَيِ الاتصال الشفوي بين أفراد المجتمع هُمَا الاستماع (الفهم والإدراك)، والمحادثة؛ فَفَهْمُ حديث أهل اللغة دون القدرة على التحدث هو أَمْرٌ قاصِرٌ لا أهمية له، ولا يمكن أَنْ تكتمل عملية التَّواصُل بين الأفراد، وقد أشار ابن خلدون في مقدِّمته أَنَّ السَّمعَ أَبُو المَلَكَات اللسانية، وهذا يدلُّ أَنَّ الاهتمام بهذه الحاسَّة يُوْلَدُ ويترابط مع المهارات اللغوية الأخرى: المحادثة، والقراءة، والكتابة. وكلُّ مهارة من هذه المهارات تُمَثِّلُ رُكْنًا هاما في تنمية لُغَة المتكلم واكتسابها، كما أنَّها متداخلة ومترابطة تُشَكِّلُ القدرة اللغوية التي يكتسبها متعلِّم اللغة. وترتبط مهارة الاستماع ببقيَّة المهارات اللغوية؛ ذلك أنَّها تساعد في نُمُوِّ مهارة الطلاقة في الحديث، أمَّا علاقتها بالقراءة فهي الأساس لِلتَّعَلُّم اللَّفْظي في سنوات الدراسة الأولى، في حين أنَّ علاقتها بالكتابة تتمثَّلُ في أَنَّ المُسْتَمِع الجيِّد يمكِنه التمييز بين أصوات الحروف فيستطيع كتابتها بشكل جيِّد وكتابة كلماتها كتابةً صحيحةً، ويساعد الطالب في زيادة ثروته اللفظية، وينعكس على التعبير الكتابي أو اللفظي. وغالبًا تأتي مهارة المحادثة بعد مهارة الاستماع، ونلاحظ أَنَّ نسبتَيْ مهارتَيِ الاستماع والتحدث هُمَا المهارتان اللغويَّتان الأعلى في اكتساب اللغة، وأضافتْ دراسةٌ قام بها مجموعة من الباحثين أَنَّ نسبة الاستماع جاءت 53%، والقراءة 17%، والمحادثة 16%، والكتابة 14%، وأن الطلاب يحصلون على المعرفة بنسبة 90% من خلال الاستماع. وهناك فَرْقٌ بين السَّماع والاستماع والإنصات: فالسَّماع (مجرَّد استقبال الأُذُن للذبذبات الصوتية من مصدر معيَّن، وهو عملية بسيطة تعتمِد على فسيولوجية الأُذُن وقدرتها على التقاط هذه الذبذبات الصوتية). ويتوقَّفُ على سلامة الأُذُن، ولا يحتاج إلى إعمال الذهن أو الانتباه لمصدر الصوت.
أمَّا الإنصاتُ فهو تركيزُ الانتباه على ما يسمعه الإنسان من أجل تحقيق هدف معيَّن. فهو كالاستماع إِلَّا أنَّه يحتاج استماعًا مُسْتَمِرًّا دُونَ مقاطعة. كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الأعراف 204)، فَهُنَا لا بُدَّ أَنْ يظلَّ المُسْتَمِعُ مُنْصِتًا لآيات الله تعالى دُونَ مقاطعة. ويُقَالُ: (إِنَّ الإنصات ليس مجرَّد الاستماع إلى محتوى الكلمات، ولكنَّه محاولة لفهمِ ما وراء تلك الكلمات فَهُمَا أقربُ إلى الصحة أو رؤية الأفكار التي يُعَبِّرُ عنها المتحدِّث ومعرفة اتجاهاته من وجهة نظره هو، ويعني كذلك الإحساسَ بما يريده المتحدِّث). هناك الكثير من المُعَوِّقَات تَحُولُ دُونَ تحقيق أهداف عملية الاستماع، منها ما تتعلق بالمُسْتَمِع كنقص مهارات الاستماع، وشعوره بالمَلَل والضَّجَر، وعدم إعطاء المادة المسموعة أهمِّيَّةً، ومُشَتِّتَات تجعلُهُ يفقد تواصُلَهُ مع تحقيق الأهداف. أما مُعَوِّقَات خاصَّة بالمتحدِّث؛ منها: عدم وضوح أهدافِهِ للمُسْتَمِع، عدم إعطاء الحروف حقَّها في النُّطْق؛ ما يَعُوقُ فَهْمَ المادة المسموعة، عدم تواصُلِهِ مع المُسْتَمِع بصورةٍ مباشرة، كالتَّوَاصُل بالعيون مثالًا، أو علامات الوَجْه بالابتسامة. وقد تكون مُعَوِّقَات خاصَّة بمكان الاستماع؛ تتمثل في: الضَّوْضَاء، وهي واحدة من العوامل الكُبرَى التي تتداخَل مع الاستماع وتتعارَض مع قدرة المُسْتَمِع في التركيز، وقد حُدِّدَتْ أربعةٌ من أنواع الضَّوْضَاء؛ هي: ضَوْضَاء جسدية، وضَوْضَاء نفسية، وضَوْضَاء فسيولوجية، وضَوْضَاء دلالية، عدم الدِّقَّة، والتَّشَتُّت.