منازل ومَفاخر في العشر الأواخر
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
تعد العشر الأواخر من رمضان من الأزمنة الفاضلة التي تمتلئ بمفاخر كثيرة من العطايا والهدايا، وتعد زادا روحيا فريدا يهبه الله تعالى من يشاء من عباده، ومن أضاءت بداياته أشرقت نهاياته، وكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأيام هدي خاص يختلف عما قبله من أيام هذا الشهر المبارك؛ حيث كان -صلى الله عليه وسلم- حريصا على أمته في أن يحثها ويدفعها نحو الاجتهاد في العبادة في هذه الأيام المباركة، ولنا فيه القدوة والأسوة الحسنة، يقول الله تعالى: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً”. [الأحزاب:21] ومن اتبعه واقتدى به، واقتفى أثره، وسار على نهجه؛ استحق محبة الله تعالى؛ إذ يقول:” قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ”. [آل عمران:31]
ماذا كان يفعل النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان؟
روت السيدة عائشة –رضي الله عنها- ذلك في قولها: “كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهْلَهُ”. [البخاري:2024]
وفي الحديث ثلاثة مفاخر من العطايا والهدايا لا تنال إلا بالعزم والصبر ومجاهدة النفس، وتعبير “شَدَّ مِئْزَرَهُ” يدل على الجد في العبادة من اعتزال النساء وغيره، وأما تعبير “وأَحْيَا لَيْلَهُ” ففيه دلالة على اغتنام وقت الليل في العبادة من صلاة وذكر واستغفار..، وجاء حرصه –صلى الله عليه وسلم- على أهله في أن ينالوا خير تلك الأيام وفضلها في تعبير “وأَيْقَظَ أهْلَهُ”؛ وذلك امتثالا لقوله تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ”. [التحريم:6]
الاعتكاف:
من سنته –صلى الله عليه وسلم- في رمضان الاعتكاف؛ لما روت السيدة عائشة –رضي الله عنها-:”أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ، حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِن بَعْدِهِ”.[مسلم:1172]
والاعتكاف أن تقيم بالمسجد بنية التقرب إلى الله تعالى ليلا كان أو نهارا، وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- حريصا عليه؛ لما فيه من التماس خير ليلة القدر، والإكثار من الطاعات من صوم وصلاة وذكر وغير ذلك، وهذه الأشياء لا يتم تحصيلها على وجه أكمل إلا في الانقطاع عن الدنيا وأعبائها.
ويكون اعتكاف العشر الأواخر بدءا من ليلة الحادي والعشرين لمن أتيح له الاعتكاف كاملا، ومن لم يستطع الاعتكاف كاملا فليكن اعتكافه جزئيا من خلال تجديد نيته كلما دخل المسجد ومكث فيه وقتا محددا للعبادة.
تحري ليلة القدر:
من نفحات الله تعالى المباركات ومن فضائل العشر الأواخر تلك الليلة المباركة ليلة القدر التي أخبر الله تعالى أن القرآن أنزل فيها، يقول سبحانه وتعالى: ﴿إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إنّا كُنّا مُنْذِرِينَ﴾. [الدخان:3]
وهي ليلةٌ مُباركةٌ من ليالي رمضانَ تتضاعف فيها الحسناتُ، وتُكفَّرُ فيها السيِّئاتُ، وهي خير من ألف شهر جعل الله تعالى لها سورة في القرآن بهذا الاسم تتلى إلى يوم القيامة، وهي سورة القدر، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ﴾.
ومما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- في فضلها قول النبي –صلى الله عليه وسلم-:”مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ”. [متفق عليه]
وهناك أحاديث وأقوال كثيرة في تحديدها في العشر الأواخر، وتحديدا في الوتر منها، ومن ذلك ما روته السيدة عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال:”تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ”. [متفق عليه] وأما عن تحريها واغتنامها في الوتر من العشر الأواخر ففيه أحاديث كثيرة، منها ما روته السيدة عائشة –رضي الله عنها-:”أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَالَ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ”. [البخاري:2017] ومع اختلاف المطالع للشهور قد تكون ليلة وترية في بلد ما وهي ليلة زوجية في بلد آخر، والذي يهمنا هو الاجتهاد في العشر الأواخر؛ كي ننال ثوابها وأجرها، فقد سماها الله تعالى ليلة القدر؛ لعظم قدرها وشأنها، وهي –حقا- ليلة المغفرة، والسعيد من وافقها، والمحروم من حُرمها.
ما المستحب من أدعية في ليلة القدر؟
يدعو المسلم بما شاء من أدعية يتقرب بها إلى ربه جل وعلا، ولعظم الدعاء وقدره في هذه الليلة فقد سألت السيدة عائشة –رضي الله عنها- الرسول –صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الأدعية التي يمكن الدعاء بها ليلة القدر في قولها:”يا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ إن وافقتُ ليلةَ القدرِ ما أدعو؟ قالَ: تقولينَ: اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي”. [الترمذي:3513]
وختاما، انظر منزلك ومقامك، أين سينزلك ربك ويقيمك في تلك الليالي المباركات؟ وحينها ستدرك ليلة القدر.
اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، واجعل لنا فيها نصيبا، ولا تحرمنا أجرها، وأنزلنا فيها منزلا مباركا وأنت خير المنزلين، وتقبل منا واقبلنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا يا كريم، واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.