مياء الصوافية
رمضان تصفية للنفس من وحشة أدرانها، ومن تخبط وجهتها، ولجّة سقوطها؛ فما هو إلا الأخذ بالنفس إلى الدرجات العلا، إلى السماوات المشرعة أبوابها للوجلين الذين تنفسوا التقوى وحثوا أنفسهم على السير في دربه يتزودون من حياضه، وينهلون من مصبّ عطائه، ومتنفس بركاته، يسارعون الخطى مؤمّلين أنفسهم للفوز بمغانم ثوابه، ورحابة إحسانه.
إنها الرحمة الإلهية التي تغشى النفوس المؤمنة، فيجعلها تعيش الرضا، وتتعلق بالأنوار التي تعرج بها إلى روح وريحان وعفو من المنان.
إن الذين أيقنوا بأن هواء الدنيا إلى انتهاء، وبأن لحظة المغادرة آتية لا محالة تزودوا من محامل التقوى فيه.
رمضان ما هو إلا الحنين للبهجة المنتظرة، أجواؤه تأخذنا إلى برودة الأنس، واطمئنانة الصدر؛ فكأن الأنوار تأتينا من كل مكان في ليله الذي توسط قلادة الليالي.
وما هو إلا أنفاس طاهرة، وعقود تُبْرمُ، ومن سار على درب التقوى سيفي بهذه العقود عقود محكمة العُرى بيضاء الجوهر زاهية المخبر.
رمضان، تشرق النفوس معك بملامح الإيمان مشعلة قناديل العبادات، وما جمال عيشها إلا تحت أفياء دقائقك، وصفاء أسحارك.
فلله ما أعظمك والقلب معك أوتي الحكمة، والخير الكثير!
حتى الصغار يغدون حكماء في كنفك فكأنهم يتقاسمون الفرح مع لياليك؛ فكل ما حولهم يقتطفون منه الضياء.
أيتها العبادة، التي تسمو بها النفس لتوشك أن تكون على معراج التقى تنتظرها أبواب الجنة والريان مشرع للصائمين بإحساس جوارحهم.
والوقت فيك كأنما أنوار إيمانية خفية تتزايد بركاته كأنه يتمدد على كل الشهور، ومن لذة وقتك المبارك تتوق نفوسنا أن يكون يومك بلا انتهاء .
ما أنت يا رمضان إلا العودة إلى الفطرة الأولى وهي الأنس مع الله الذي نجد معها أنفسنا وقد لبست الأثواب النورانية، وتوشحت بأخلاق العظماء.
تضيق معك مسالك الصَباية فما يبقى منها إلا صُبابة تكاد أن تجف مع هواء التقوى النقي؛ فتسد مسالك الغواية مع مجاهدة النفس، وتقف الأبدان – بكل جهدها- تغترف من بركات أسحارك وقيام لياليك.
قد عاشت تقوى صيامك أمم من قبلنا مع اختلاف طبيعة زمانك وهلالك، فجئتنا على وجهك الأخير لتحيي ما مات من أشياء في نفوسنا بعدما عكّرتها تقلبات الخُلُق، وفتور العزائم.
إننا نرى البركات في العمل حين نهارك؛ فلا نشعر إلا بأن الوقت ينتظرنا حتى ننجز، وتصبح النفوس معك كأنها قرآنية الطاعة؛ قائمة بأمر القرآن، ولا تنتهي إلا عن نهي القرآن.
