إنه الربا… يا صاحبي فاجتنبه!
فوزي بن يونس بن حديد
abuadam22f@gmail.com
التقيت به بعد سنوات، فوجدته مهمومًا، شاحبَ الوجه، غطّى الشيب لحيته ورأسه، رغم أنه عاش ميسور الحال قبلئذ، كانت لديه وظيفة، وتزوج أكثر من مرة، وأكثر من زوجة، ولديه عدد من الأبناء والبنات.
حيزت له الدنيا، وعاش مسرورا، مفعما بالحيوية والنشاط، وكان من بين الذين يمرحون دائما، بشوشا، لا تفارق الابتسامة وجهه، يحب الناس ويجتمع بأصدقائه وأحبابه، ولا يميز بين هذا وذاك، فالكل عنده سواسية في الحظوة والجلوس رغم أن لديه بعض الأصدقاء من هم في مرتبة أعلى.
رجل كان ولا يزال يحمل صفات جميلة، لكن لا تظهر على ملامحه خيبة الأمل، و لا على مظهره سوء الحال، بل كان حديثه شائقا فيه من المتعة ما يجعلك دائم الصلة به حتى لو فارقته قدرا من الوقت، لكن الزمان وحده من يغير الأحوال من حال إلى حال، ربما لتغير الأوضاع والأزمات التي أثقلت كاهل كل إنسان، بعد ما حدث للعالم منذ 2020، أزمات تلو أخرى جعلت العالم كله يتغير فما بالك بصاحبنا؟
كانت جائحة كورونا التي قضت على كل الآمال، والانخفاض الكبير لأسعار النفط، ثم الحرب الروسية على أوكرانيا وأخيرا الزلزال المدمر الذي حدث في تركيا وسوريا، وغيرها أثرت كثيرا في أحلام كثير من الشباب خصوصا والناس عموما، لاسيما الخروج من الوظيفة فجأة إما بتسريح أو بفقدان، وقد حدث هذا في كثير من البلدان، فيجد نفسه أمام أبواب أخرى موصدة لم تكن في الحسبان، ويقف بين نارين، تحرق كلاهما ما بقي من جذور البقاء سالما في هذه الدنيا.
سألته ما بك صاحبي؟ ما الذي أرهقك؟ وأنت المفعم بالحيوية والنشاط؟ ما الذي جعلك شاحب الوجه وكأنك تحمل هموم الدنيا كلها على كتفيك، وأنت غير قادر على حملها، هَمْهم وحَمْحم وتردّد في الكلام، لكني أصررتُ عليه أن يتحدث ويفضفض، فإن الفضفضة جزء من العلاج، فقال بنبرة حزينة: إنها الحياة يا أخي.
قلت له إن الحياة صراع من أجل البقاء، وإن الحياة فيها متناقضات جعلها الله تعالى امتحانا للعباد، إن الحياة ليس دار بقاء وإنما دار مشقة وتعب وجهاد، كلنا نَهيم فيها بين وجع وفيضٍ، وبين ألم وأمل، وبين محنة ومنحة، وبين حزن وفرح، فبقاء الحال من المحال، وقد سُقت له هذه المقدمة لأخفّف عن صاحبي ما يحمله، فأخرج على إثرها زفرات وتنهدات تعبر عن حسرة مكبوتة، تنتظر الوقت المناسب لتخرج من سجنها المظلم.
وبعد أن شعرتُ أنه بدأ يهدأ، قلتُ له ما الذي أوجعك يا صديقي؟، قال إني وجدتُ نفسي في حصار مع نفسي، بعد أن تتالت هذه الأزمات وتكالبت علي، وبعد أن خرجتُ من الوظيفة، حاصرتني البنوك من كل جهة وأنا الذي عليَّ ديونٌ كثيرة لم أستطع سدادَها، كان المبلغ كبيرا، وكنت قد حسبت أن الزمن سيرافقني لكنه تركني بعيدا ألعق الصَّبر لوحدي، ولم أجد من يخفف عني.
قلت له أفصِحْ أكثر لعلني أفهم جذور المشكلة، قال: إنه الربا يا صاحبي، لم أستطع أن أتخلص من الفوائد التي جثمت على صدري وتركتني لا أتنفّس، حينئذ عرفت لُبّ المشكلة التي حيّرت صاحبي، فسارعت إلى تهدئته، وبيّنتُ له أن الربا حرب على النفس وعلى المال وعلى الأسرة كلها، وعليه أن يبحث عن طريقة للتخلص من الفوائد بأسرع الطرق وقبل فوات الأوان.
إنه الربا، الخَبث المُطبق على النفس، قد يلجأ إليه الشاب في حال الضرر زعما منه أنه يخلصه من الضيق الذي أصابه وهو يرى أقرانه قد تزوجوا وملكوا البيوت والسيارات، وحتى يلحق بالرّكب عليه أن يقترض حتى ولو كان ذلك بفائدة ونسي تقلبات الزمن فجأة، ونسي أن البنك لا ينتظره حتى يجمع له الدَّيْن الذي عليه، ولا يُعيد جدولة دَيْنه الذي يتراكم سنوات وسنوات، وربما يجد المرء نفسه أمام باب آخر لا أريد أن أذكره هنا لألَمه الشديد على النفس.
إنه الربا، الحرب العسيرة التي إذا استطاع المسلمُ أن يتغلب عليها، عاش بقية حياته سعيدا، وإذا تورط أحد في خيوطه وشبكاته العتيدة سارع للتخلص منه، ويجزم بأن لا يعود لمثله أبدا ولو كلفه ما كلفه، فإذا أتاه اليُسر تذكّر ما كان فيه من عُسر حتى يرتدع ويقتنع بما عنده، فالقناعة كنز وإن كانت تحرمنا من بعض اللذة الزائلة.