سطوة ذَكر .. قصة قصيرة ( الجزء الأول)
بلقيس البوسعيدية
فجأةً تغير كل شيء، كفّ والدي عن الذهاب لبيت جارنا (أبو محمد)، وصار حديثه مع أمي أكثر ليونةً ورقّة، بل إنه في مساء الأمس سأل أمي إن كنت بخير، وابتسم طويلاً حين رمقَته متعجبةً من اهتمامه بي، فقد كان يعود من عمله مرهقاً، يلقي بجسده الثقيل على سريره دون أن يسأل عن أيّ أحدٍ منّا سوى عن أخي (وليد)، ذراعه اليمنى كما يقول لي دائماً، وأنا غارقة في جلي الصحون أو في كنس الأرض وغسل الثياب وإعداد الطعام. كل يوم يطلب مني تحضير طعامه بأسلوب فظّ، وينام بعد تناول طعامه على الفور. وحين كان لا يذهب إلى أيّ مكان كان يزداد شراسةً وصرامة، ويأخذ في الذهاب إلى منزل جارنا (أبو محمد)، حيث يشرب الخمر، ويشاهد المباريات والأفلام، ويعود مع وجه الصباح مترنحاً برأسٍ ثقيل، يمسك بعنق زجاجة خمرٍ رخيصة، ثم يبدأ بالصراخ وتكسير الأشياء، وإذا لم يجد شيئاً ليكسره فينهال ضرباً على أمي بالسياط، ولا يفلتها من تحت يديه حتى يكسر لها ضلعاً، ثم يرتمي على الأرض ويغطس في نومٍ سحيق، بينما أمي تظل تبكي طوال اليوم بشكل صامت دون أن يُسمع لها صوت، ولكنني كنت أراها وأسمع شهقاتها وأتعذب معها، كنت أتوجس حزنها في كل مرة، وأرى دموعها وألمح انكسار قلبها من نبرة صوتها. أمي امرأة مقهورة ولكنها قوية وصبورة، فبرغم من كل الأذى الذي يلحقه بها والدي، فإنها ما زالت تحبه وتحترمه وتقدسه، وتلتمس له أعذاراً مجنونة في كل مرة يعود فيها إلى البيت وهو في نشوة سكره.
سألتها ليلة البارحة، قلت لها وعلامات التعجب المختلط بالاستياء والحزن بادية على ملامحي:
“هل ستكملين باقي حياتكِ مع هذا السكران؟ لماذا يا أمي؟ لماذا تضيعين شبابكِ مع رجل لا يقدّر وجودكِ في حياته؟ أنا لا أفهم ما الذي يرغمكِ على العيش مع رجل مثل والدي؟ لمَ أنتِ صبورة على رجل لا يستحق دمعة واحدة من عينيكِ الطاهرتين؟
تفاجأتْ بالسؤال، حيث إنها لم تتوقعه البتة مني، من ابنتها الصغيرة والضعيفة والوحيدة. ظهرت أمارات الضيق على وجهها الذاهب في الانطفاء التدريجي، اكتفت بهزّ رأسها ولم تنبس ببنت شفة، وبدوري أنا صمتُّ احتراماً لحزنها.
صحوتُ باكراً جداً هذا اليوم، وأسمع صوت أمي تسبّح على سجادتها في استعداد للصلاة، يمرّ أبي من جانبي ويقول لي بنبرة إنسانية هادئة تفوق رقتها نسمات الفجر العليلة:
“عيونكِ الجميلة متعبة جداً، ماذا حدث؟ ألم تنامي جيداً ليلة البارحة؟
يتبلد وجهي، ويجمد لساني، أهز رأسي وأحدق في وجهه من دون أن أجيب على سؤاله.
أدلف إلى الحمام، وأتأمل وجهي عميقاً في المرآة المهشمة من أطرافها، تأخذ الدموع الكثيفة في التساقط من عينيّ بغزارة، ثم أجهش ببكاء مرّ طويل، أتأوّه بحرقة، أحسّ بلذعاتها على صفحة وجهي، أغسل وجهي وعيني بالماء البارد مراراً وتكراراً، حتى أزيل آثار البكاء، وجهي أصفر شاحب، وعيناي حمراوان، متعبتان، ومنتفختان بعض الشيء، أعود وألقي النظر في وجهي الحزين في المرآة وأنا أهمس قائلة بصوت حزين:
“لا بأس، فأنتِ معتادة على هذا الوجه البائس والحزين”، ثم أتنهد بعمق وأنا أخرج من الحمام، أنظر إلى السماء متألمة ومتسائلة:
“لماذا يا رب؟ لماذا عليّ أن أضحّي في كل مرة؟ لمَ خلقتني امرأة ضعيفة بلا حيلة ولا قوة ولا قيمة؟
لماذا أنا يا رب؟ فأنا لا أريد أن يكون مصيري مثل مصير أمي”.
أطلق تنهيدة عميقة:
“أستغفر الله العظيم، أستغفرك يا رب بوسع السماء وبامتداد الأرض وبعمق البحار”.
أمشي بخطوات بطيئة مترددة إلى حيث تجلس أمي، أرى أبي يقف إلى جانبها، يتثاءب شادّاً ذراعيه ما وسعه ذلك، ثم أسمع صوت أبي يسأل أمي بنبرة جادة:
“كيف؟ هل هي مستعدة؟”
ترد أمي وهي تطوي سجادتها من على الأرض:
“أعتقد أنها جاهزة، إنها لم تنم الليلة الماضية حتماً، هل تعرف متى يجب علينا أن نكون في المستشفى؟”
“آه، أجل، إنهم يحتاجون وجودنا، وعلى وجه الخصوص وجودها هي في تمام الساعة الثامنة صباحاً.”
تتنهد أمي وتقول باستياء:
“هل تعتقد أن ما نفعله يعدّ أمراً صحيحاً؟ أقصد أن نضحّي بحياة ابنتنا لأجل ابننا؟ فقط لأنها فتاة؟ ماذا لو كان لك ولدان؟ ماذا كنت ستفعل حينها في مثل هذا الموقف الصعب؟ هل كنت ستضحي بواحد منهما أيضاً لأجل الآخر كما تفعل الآن بابنتك الوحيدة؟
أتوقف فجأة وأجمد في مكاني كصخرة صماء، ورغم أن الحديث ينذر بعاصفة كريهة، فإنني أحسّ نفسي خارج كل شيء، وأسمع صوت أبي الموبخ بشدة يجيب:
“وما الخطأ لو أنها أنقذت حياة أخيها؟ هاه، ما الذي يمكن لها أن تفعله بذراعين لا قيمة لهما ما داما أنهما ملتصقان بجسد امرأة مثلها؟ لا يمكن أن أترك ابني يعيش بذراع واحدة، هل تفهمين؟ هذا مستحيل، عليكِ تقبل الأمر، سواء أعجبكِ ذلك أم لم يعجبكِ.”
يصمت للحظة، ثم يردف قائلاً بنبرة حازمة:
“المرأة فداء للرجل، (كرامة) فداء لأخيها (وليد)، لا تنسي ذلك.”
أحرك عيني نحو أمي، وفي أعماقي يدوي صوت البكاء.
تغرورق عيناها بالعبرات، تبتلع غصة عالقة في حلقها وتقول:
“لكنها ستضحي بقطعة من جسدها وهذا مؤلم جداً، لا أعلم، فأنا أشعر بتأنيب الضمير لأننا نقوم بذلك، هل تعرف ماذا يعني أن يعيش الإنسان بجسد ناقص؟ هل تعرف كم من الوجع والألم يكمن في حياة بشعة كتلك؟”.
يرد عليها والدي صارخاً وقد برزت عروقه المحقونة غضباً من عنقه:
“لقد حسمنا الأمر يا امرأة، لا تنسي بأنها ستتزوج عمّا قريب، فخطيبها (سعد) قال بأنه يريد أن يحدد موعد زفافهما ليلة الخميس المقبلة، سيأتي برفقة عمه، لذلك دعينا ننهي هذا الأمر على خير ما يرام، دعينا ننتهي من علاج ابننا الوحيد (وليد) بسلام قبل أن تغير (كرامة) رأيها فترغمني على دفنها حية.”
أقول في خلدي وأنا أرمقه بنظرات حادة:
“هه، يقول” بسلام “، وأين يكمن السلام يا ترى؟ هل ترتكب الجرائم البشعة بسلام يا أبي؟ تباً لك، تباً لوجودك في حياتي، تباً لقراراتك وأفكارك، تباً لأن فتاة جميلة مثلي ابنة لرجل قبيح مثلك. ما أقساك وما أبشع قلبك، كمْ أكره ظلمك لي يا أبي.”
تصيح أمي منفعلة وقد أخذ جناحا أنفها في الارتجاف:
“ولكنها ابنتنا أيضاً يا (أبو وليد)، هل نسيت ذلك؟ هل أعماك حبك لابنك عن رؤية ابنتك؟ ابنتك يا (أبو وليد)، إنها ابنتك الوحيدة يا رجل.”
تنسلّ من عيني أمي دمعة، تبقى صامتة لفترة، ثم تردف قائلة:
“هذا ظلم، صدقني هذا ظلم، إننا نظلم ابنتنا، فلا أحد منا يرضى لنفسه بأن يعيش ناقصاً وبجسد مشوّه، لماذا لم تخترني أنا مثلاً؟ لماذا؟ لماذا لم تختر نفسك بدلاً منها؟
يجيبها أبي ببرود وصرامة وقسوة العالم أجمع:
“كفى هراءً يا امرأة، لا ترغميني على جذبها من شعرها بعنف وجرّها أمام عينيكِ الآن إلى أقرب مقبرة، يبدو أن الاحترام لا ينفع ولا يصلح معكنّ أنتنّ يا معشر النساء.”
تجهش أمي بالبكاء وتضرب كفاً بالآخر وهي تردد بنبرة منكسرة:
“حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل.”