2024
Adsense
مقالات صحفية

ظلال السيوف العمياء

عبدالله بن حمدان الفارسي

لا تقيّم الناس بميزان مزاجك، ولا بعنجهية نظرتك من خلال ما يبدو لك في هيئتهم أو من مظهرهم الخارجي مهما تجلى لك ذلك، فهم كما قال السلف: “الناس مخابر وليست مظاهر”، الكثير ممن لديهم فلسفة إطلاق الأحكام المتسرعة على غيرهم من خلال ما يتراءى لهم من الغلاف الخارجي، دون منح النفس لسبر أغوارهم والتعمق فيها، ظنًا منهم أنها فراسة أو تميز اختصوا بهما، يطلقون أحكامهم ويبدون رأيهم جزافًا في خلق الله كيفما يشاؤون، ويبدعون ويتمادون في ذلك، ولكن بإبداع سلبي فهم للضلالة به أقرب، ولا يمت للحق بصلة نهائيًا، ويدونون ذلك على لوحة عمياء لا علاقة لها بالبصر والبصيرة.

إن سألت أحدهم هل تعرف فلانا؟ يجيبك بنعم! هل عاشرته؟؛ فيرد: لا . هل سافرت معه؟؛ فيجيب: لا !. هل اقترض منك أو اقترضت منه؟؛ فيقول: لا لا !، والكثير من هذه وتلك الأسئلة المتناسخة، وفي النهاية لا تجد لها الإجابة الشافية المقنعة!. إذن كيف أطلقت العنان لفكرك بالانطلاق في فضاءات الأحكام الظالمة على غيرك وأنت بالكاد لا تستطيع فهم نفسك ومعرفة حقيقتها ومبتغاها؟! حتى الأذن في بعض الأحيان تكون غير مهيأة لسماع الصوت بإتقان تام؛ لذا لا يعتمد عليها، والعين أيضًا لضبابية أجواء ما حولها تخونها وضوح الرؤية وشفافيتها؛ لذلك لا يؤخذ على ما تصورته، ولعدم التيقن التام حتمًا فإن نتائج الاستنتاج ستكون سلبية، وعلى مر العصور لا بد من وجود أخبار هي في الأساس مضللة ومعتمة؛ لذا لا يجب الأخذ بها والاعتماد عليها من الوهلة الأولى.

كثيرًا ما نكون سببًا في إصدار أحكام نتيجة شكل لم يرق لنا، أو كلمة لم تسر مسامعنا، أو معلومة مغلوطة وصلت إلينا، أو نتيجة عدم فهم لتصرف أو سلوك معين، أو كلمة لمسناها من الآخر دون وعي مدرك لمعناها، ولم يخدمنا التفسير المنطقي لها، أو جهلًا لخلفيات الحدث أو المقصد.
إن الاطلاع الخاطف على الأشياء وحلحلة التصرفات لا تبنى على هكذا قناعات فردية وسريعة ودون دراسة متأنية، فدائمًا ما تكون الأحكام المتسرعة تعطي نتيجة نهايتها مؤلمة، وفي الكثير من المواقف لا ندرك حقيقة أحكامنا إلا بعد فوات الأوان؛ فلماذا لا نتبع القول المأثور في التأني السلامة وفي العجلة الندامة؟

لا أحد يمتلك المقدرة المطلقة على قراءة الآخر وتفسير ما تكنه نفسه من خلال إطلالة خاطفة، ومواقف عابرة، الأمر يحتاج منا وقفة على منصة التأني وتلمس أرض الواقع والحقائق قبل إصدار الأحكام على غيرنا. إن ما يؤنس ويطمئن القلوب هو التعامل مع الآخر بحسن النية، والنظر إليه بعين غير معكرة بشوائب ما حولها، والاستماع له بإذنٍ خالية من الخرخشة والطنين؛ فالتعامل مع الناس يجب أن يرتقي لمستوى الأحكام المتزنة والمتعقلة، والاطلاع على كافة الجوانب قبل إبداء الرأي، ولا تأخذ بالشواهد الظاهرة فقط، كالجنس أو اللون أو المستوي الاجتماعي والتعليمي؛ فالإنسان يبقى أجمل ما خلق الله، ومميزًا عن الكائنات الأخرى للسيطرة عليها، وتسخيرها لنفسه بمستواه العقلي المتعقل، وبخُلقه قبل خَلقه؛ لذلك ضع حدًا لنفسك وروضها على التأديب والتأدب.

إن تحصلك على شهادة علمية عالية -الله أعلم بالكيفية التي تحصلت عليها- أو بمنصبك الذي نجهل الأسلوب الذي انتهجته للوصول إليه، أو بنسبك الذي أنت شخصيًا تجهل أصل حقيقته، هي أشياء لا تعطيك الحق بالحكم المطلق على من هم أقل منك شأنا دنيويا، أو لاختلافهم عنك بأمور قدرها الله لك ولهم في الدنيا، فالتكبر والعظمة والتعالي يا بني آدم هي صفات يمقتها الخالق قبل الخلق في الإنسان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:(قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار )الحديث أصله في صحيح مسلم.

إذن إن أردت معرفتي وتهمك حقيقتي يجب عليك أن تسمع مني وليس عني، وإن كان شغفك يجبرك للاطلاع على محتواي لا تكتفي بالتمعن في لحيتي أو لوني أو هيئتي، ولزامًا عليك أن تجتهد بتقليب صفحاتي وقراءة ما بين السطور، والبحث عن التفاصيل بتروٍ عما تخفيه الأزقة والطرقات المؤدية إلى عقلي وقلبي، ربما ساعتها ستجد ضالتك التي تبحث عنها، هذا إن أسعفتك حصافتك، ولم ينفد صبرك للتمييز ما بين الضلالة والهداية، وما بين الظلام والنور، وما بين حقائق نطلع عليها ونقف كل يوم على عتباتها وتلامسها نظراتنا، وتهتز من فظاعتها رؤوسنا تعجبًا منها، ومثالا لا حصرا يقال: “ردوا التحية بأحسن منها”؛ فتجد من يرد بأسوأ منها، لا لشيء وإنما لمقته لونك أو نسبك أو مكانتك الاجتماعية التي هي أقل شأنًا منه، فلا ينظر إلى علمك ولا أدبك أو رجاحة عقلك واتزانك بقدر نظرته الدونية لك وبازدراء، وتقييمه لك أيضًا من خلال أشياء لا دخل لك فيها، وهي بمثابة الصناعة التي تفوق مهاراته وقدراته، ويكون عاجزًا عنها كل العجز للإتيان بمثلها أو بأقل منها. قال تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ الآية ١١ من سورة لقمان.

 أخيرًا وليس آخرًا؛ ثروة الإنسان الحقيقية ليست في ماله أو جاهه أو لونه وحسبه ونسبه إنما في دماثة أخلاقه وحسن سلوكة وتواضعه للناس واحترامه لهم، وتقبله برحابة صدر لآراءهم، والأخذ بوجهات نظرهم بما يخدم المصلحة بين الطرفين دون مجاملة أو تجمل لا جدوى منهما؛ فالدنيا خُلقت لكافة الكائنات والمكونات للعيش والتعايش، والسعيد فيها هو التقي ومن يسعد غيره قبل نفسه، والكريم فيها من يكرم نفسه قبل غيره؛ وذلك بالترفع عن سفاسف الأمور والتنزه عن كل ما يسيء له، فالأخلاق هي صفات أكرم خلق الله وهم الأنبياء والمرسلون، فلا يغرنك منصبك ولا نسبك، فكلنا إلى مصير واحد، فأكرمنا عند الله أتقانا، وليس أغنانا مالًا ولا أشدنا قوة ولا أكبرنا جاها.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights