متنُ الحياة
طه جمعه الشرنوبي
نذكُر أيامنا السعيدة الأولي، التي لم نكن نُخبئها قلقاً، لكننا نحتفظ بها في أرشيف الذاكرة كقصيدة يتيمة في الحُب.
نحمل داخلنا شكل الحيّ القديم، وصوت الراديو، ورائحة الخُبز الطازج، ومحطات الأتوبيس في السابعة صباحاً، ودفاترتنا المدرسية، وتحية علم الوطن؛ الآن ونحن هنا، أدركت أني أحببت أيامي.
كنا نتناوب الضحكات على دَرَج البيت، يذُوب الليل بالحكايات، نروي قصصا عن العشق والجمال عندما يتعلق الأمر بالحُب.
كُنّا نتودد باللطف لُطفًا وليس كرمًا، والحُب محبّة وليس جودًا، ونقترِنُ بالجمال وصالاً، ونشتهي الخير نُبلاً، ونؤمن بالناس كصالحين.
كانت أيامنا تشبهنا، تشبه أمنياتنا، تشبه معطفا في ليل بارد، تشبه أغنية أنت عمري لأم كلثوم في مقهى قديم يدندنها كل عابر، تشبه الفطائر التي تُعدها لنا الجدة بكل مقادير الحُب.
لم نُسرف في شيء كما فعلنا بالمحبة، فما كانت من القلوب سوى الالتفات بحثاً عن المزيد من الحب.
كانت تقول الجدة دائماً: “إن القلوب ليس لها حارس”؛ لذا كانت تصاب دوماً بالسُهد والليل، تُعطي حباً وتنال حُبا، وتعيش حبًا، وتموت من الحُب، حتى يأتي القدر حاملاً مرثية أخيرة للحياة، ويبدأ الإنسان يشيخ من داخله، يكبر وتكبر معه أيامه ويظل المرء يحاول.
إن لنا في الحياة نصيبا من المحبة، نأخذها رضاً ما استطعنا إليها سبيلاً.
الآن وبعد أن كبرنا، وخيوط الفضة غزلت رأسنا، وبدا واضحاً في وجوهنا خطوط العمر، لم يُعد بوسعنا تقسيم الأيام كما نريد، لكننا نحاول هضمها كما هي، نبتلعها محترقةً تارة ونيئة تارة أخرى، كعكة تُعدها لنا الأيام على طريقتها على عكس طريقة الجدة، لم يعد بوسعنا رفضها أو التمنع عن تذوقها، نحاول استساغة طعمها، ننبهر بأطرافها المحترقة، وجوفها النيئ، بسكرها القليل أو الزائد.
نتقبل الحياة الآن بلونها الرمادي، نحاول أن ندللها، نتغزل فيها، نضع لها القليل من اللون الأحمر في الوجه كلما قلبت وجهها علينا، نهديها سوارا في يديها كي لا تصفعنا وتسخط علينا.
يصادف فينا العمر طفلاً صغيراً، يسير في شوارع مدينته متكئاً على عصاه، يحاول التقاط أيامه التي فقدها في لعبة “الاستغماية” والتي ظل ينتظر معصوب العينين إلى حائط في انتظار رفاقه.
يصادف فينا العمر طفلاً صغيراً لا زال يجلس على طاولة المقهى، يحتسي سنواته واحدة تلو الأخرى، خوفاً من أن تُسلب، لكنه سرق نفسه، نصادف أنفسنا أمام المرآة، خوفاً من أن يفوت العمر دون أن نلتقي بأنفسنا ويتولد الشعور بالغربة والاغتراب، نقول لأنفسنا: ” أنا أعرفك جيداً، لقد مررت بكذا وكذا، أحسنت، لقد أبليت حسناً، شكراً لك”، ثم فجأة تبقى المرآة وحدها تبحث عن خيالك الذي فرّ هارباً من الحياة.