الاعتلال الفكري
عبد الله بن حمدان الفارسي
للصمت ضجيج مرعب ومؤلم حينما تتكالب عليك هموم الحياة وتتكاثر عثراتك، ولا تجد متنفسا لما تكتظ به أفئدتك من عراك داخلي، حتى أنفاسك مكبوتة نوافذها ومؤصدة، كل شيء يهدف لتأجيج آهاتك، للصمت غضب كغليان البراكين عندما تثور؛ فلا تجد للفوهة سبيلا للنفاذ، فليس هناك إيلامٌ أكثر من الصمت الهائج أنينه حين يهز القلوب ليحطم صواريها، وفي خضم تلك التداعيات المنبعثة من الصمت الصاخب، تتنوع عليك مصادر القرعِ المؤلمة، فتجد هناك من بيده مشاعل الإيذاء، يترصد مع سبق الإصرار لعثراتك؛ ليزيد من وقعها وتوهجها، ويثقل كاهلك حِملا بصخور اليأس في محاولة لكسره ووأد الأمل في قلبك.
إن جل ما نعانيه من ضغوط وشعور مقيد بالأصفاد من جراء الاحتقان النفسي وضيق سبل الفرار والإحساس بمقاصل النهاية تلامس عنق أحلامنا، كذلك لانعدام وجه الارتياح واختفائه من المشهد اليومي لحياتنا، وبعثرة نظراتنا الحالمة وتساقطها في ساحات وحل النزاعات والاختلافات المميتة، وانحسار الحوار في آفاق ضيقة، واللجوء لتمزيق روابط التآلف والتواد بيننا بتعمد أو بغيره، هي عبارة عن وحش يجثم على صدر طموحاتنا، ويزداد تضخما، حتما لا يكون ذلك إلا من حياكة ما تجود به أفكارنا وتنشئته بجعلها ملاذا لهوام الفكر الضار، وأيضا هي نتاج ممن نظن أنهم المرفأ والملجأ لنا حين تضيق بنا السبل وتتكسر المجاديف وقواربنا.
لقد جرفتنا مباهج الغرب المصنعة لنا دون سوانا وسياساتهم الغوغائية، وكراهيتهم لمبادئنا، وديمقراطيتهم الهشة المزيفة، والتي هي في الأساس ليست إلا ديموقراطية مغلفة ومغيبة عمدا خلف جدران الجهل والتناحر النفسي والتباغض الفكري، تضاد في الأفعال وتناقض في الأقوال، عتمة أولها ضوء مفخخ الغاية منه جذب والتقاط كل ما هو مهيأ للتبعية وسهولة الانجراف والانحراف، وثانيها وآخرها كهوف فاقدة للضوابط الحسية السليمة والدينية والاجتماعية والأخلاقية والحس السوي.
أحداث يومية تدمي القلب وتدمع العين ترافقنا أينما كنا بمختلف أنماطها السيئة، تلك التي يغلب عليها طابع السلبية والدونية والانحطاط في كل شيء، انفعالات وافتعالات عدوانية من أدنى شيء، ليست لها صلة بما تقره وتحفز إليه شريعتنا الإسلامية، وترشد إليه الفطرة الإنسانية السمحة، الأنفس لا تتقبل النصح والتوجيه، وجوه مكفهرة، عيون بائسة، قلوب يائسة غير صالحة للإيواء، ذلك نتاج احتقان النفوس لدرجة التعفن الخَلقي والخُلقي، مما يجعلها قابلة للكسر بسهولة، والانفجار في أي لحظة ولأتفه الأسباب، تزايدت وازدادت توسعا الفجوة بين الناس مما يوحي وكأن الألفة والمودة والرحمة صفات خيالية لا تمت للواقع البشري بشيء، تعرت القلوب من الحشمة، وخلعت ما عليها من ثياب وبراقع الحياء والخوف من العقاب والعواقب.
ضاقت الأنفس بما رحبت واحتوت، تاهت الأفكار وتبلدت العقول، وذبلت بساتين المشاعر النبيلة، فلم تعد تتسع مكانا للذين يقتسمون معنا لقمة الابتسامة والفرح ويشاركوننا أنفاس الحياة بكل تجلياتها، فلا ملجأ يأوي مشاعرنا من الشتات، ولا مرسى آمن لسفننا حين تنهكها عباب الزمن وعواصفه.
نحن بحاجة دائمة إلى تلك المقومات والأسس القيمة التي لا غنى لنا عنها، أساسيات لا يستقيم لنا حال -بشمولية هذه الكلمة من معنى- إلا بها، ولا تهدأ عواصفنا إلا باتباع شرع الله ونهج نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، وما عدا ذلك فإن السفينة مائلة لغرق حتمي لا محالة، والسقف تشققاته وتصدعاته تنذر بسقوط لا يبقي ولا يذر.
ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه لانشراح القلوب وطمأنة النفوس ولإعادة البهجة للوجوه، وإيجاد منافذ شفافة لنبذ الصمت الضار بكل أنواعه وليس الصمت لرأب الصدع، ولتطهير ما تبقى من مخلفاته يجب أن توجد بينا الصراحة ذات الشفافية المطلقة، وحتى نرقى لهذا الصفاء ليس لنا إلا أن نستدير، ونعود لنقطة الانطلاق، من حيث بدأنا وكنا، للفطرة التي ولدنا عليها، نتصفح منهجنا ونتمعن فيه ونتفهمه، نسترجع ما كان أو ما تبقى مما كان، فالمنحنى في غاية الصعوبة والانحدار، وكل المؤشرات هي دلالة على أن سلامة النفس ونقاء القلوب وصفاءها تكمن في العودة إلى ما خلقنا وتعودنا عليه قبل فوات الأوان.
قال تعالى : (ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ) سورة الرعد الآية 28.
وفي حديث جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تَرَكْتُ فِيكُمْ ما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إنِ اعْتَصَمْتُمْ به؛ كِتَابُ اللهِ ] رواه مسلم في صحيحه.