كيف طوّر الطهطاوي النحو العربي؟
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
تحدثنا في مقالنا السابق عن أهمية علم النحو في حياة رفاعة الطهطاوي؛ حيث أسهم بجهد كبير في خدمة اللغة العربية من خلال تجديد نحوها وتطويره؛ لذا صنف كتابه “التحفة المكتبية في تقريب اللغة العربية” وأنه كان يعد النحو للكلام كالملح للطعام، وتناولنا جانبا من حياته ونشأته، ومقدمة لكتابه التحفة، ولكي يجيب هذا المقال عن عنوانه؛ فلا بد من تناول أبرز ملامح فكره في كتابه، ومن ثَمَّ ننطلق منها نحو بيان سمات التجديد والتطوير لديه.
ملامح فكر الطهطاوي في كتابه:
تتجلى أهم ملامح فكر الطهطاوي في كتابه في عدة قضايا نتناول منها ما يخص أصول النحو عنده التي اعتمد فيها على السماع والإجماع والقياس شأنه في ذلك شأن أسلافه ممن صنفوا في النحو العربي.
وقد ظهر الأمر جليا في الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم، واهتمامه بالقراءات القرآنية، وكذلك الشواهد الحديثية والشعرية والنثرية من كلام العرب ولغاتهم ولهجاتهم.
وقد أشار محمد كشاش في بحثه “منهج رفاعة الطهطاوي النحوي في ضوء كتابه التحفة المكتبية في تقريب اللغة العربية” إلى بعض منها، وقد رجعت إليه، وأفدته منه.
ففي القرآن الكريم استشهد به الطهطاوي كثيرا؛ حيث بلغت الشواهد القرآنية في كتابه مئة واثنين وتسعين شاهدا.
وأما القراءات القرآنية فقد تتعددت أماكن الاستشهاد بها في تحفة الطهطاوي، وقد جعلها الطهطاوي ثابتا من الثوابت التي أكد بها قواعده النحوية التي تناولها في مواضع مختلفة.
ولم يغفل الطهطاوي الاستشهاد بالحديث الشريف؛ إذ عده أصلا من الأصول النحوية، ويلاحظ أنه كان يذكر موضع الاستشهاد من الأحاديث دون أن يتناول متن الحديث كله؛ تسهيلا على المتعلم والقارئ.
وأما الشعر فقد أكثر الطهطاوي من الاستشهاد بأشعار العرب، وقد بلغت الشواهد عنده خمسة وثمانين (85) شاهدا، ورد بين بيت وشطر، ويمكننا القول في ضوئه:”إن الشعر دخل –تقريبا- كل باب ومسألة في الكتاب؛ نظرا إلى ارتفاع عدد الشؤاهد نسبيا في كتاب صغير الحجم كهذا”.
ونجده في استشهاده بالشعر يتبع أسلافه ممن ذكروا شواهد نحوية، فمرة يذكر اسم الشاعر، وأحيانا يتركه، وتارة يذكر البيت كاملا، وأخرى يكتفي بشطره.
ويعلق كشّاش على قلة نسبة الطهطاوي الأبيات الشعرية التي ذكرها لأصحابها، وتركه كثيرا منها بلا نسبته:”ولم يعن الطهطاوي بنسبة الأبيات أو الشطور إلى قائليها، وهو وإن ذكر اسم الشاعر، فقد أثبت القليل منهم، من نحو: لبيد بن ربيعة، وامرئ القيس، وميسون زوجة معاوية، وابن دريد، والشاطبي، والحريري، وعلة ذلك أن شواهده في أغلبيتها معروفة ومتداولة في مؤلفات التراث النحوي وشروحاته كــ”أوضح المسالك” لابن هشام وسواه، واللافت للنظر أن شواهد الطهطاوي الشعرية التزمت الإطار الزماني والمكاني لعصر الاحتجاج الذي وضعه علماء العربية”.
وأخيرا جاء النثر من أقوال العرب وأمثالهم ولغاتهم ولهجاتهم متناثرا في ثنايا التحفة، فلم يغب عن بال الطهطاوي ما في كلام العرب الفصحاء المتمثل بالأمثال وسواها… من الأهمية في باب النحو العربي، وقد انعكس هذا في مؤلفه الذي حضن في تضاعيفه شيئا منها، وقد تناول الطهطاوي بعض اللغات واللهجات باختصار في كتابه في مواضع متفرقة.
سمات التجديد والتطوير لدى الطهطاوي في كتابه:
من يتصفح كتاب التحفة لأول وهلة يدرك أنه مختلف كثيرا عما سبقه من المصنفات في كثير من المسائل التي احتوى عليها؛ حيث تجلى الأمر في عدة نقاط يمكن إيجازها فيما يأتي:
أولا: تبويب الكتاب في خمسة عشر بابا أوجز فيها الطهطاوي قواعد النحو في صورة مصفاة؛ مما يسهم في إقبال المتعلمين على دراسة النحو دراسة يسيرة في صورة مبسطة.
ثانيا: تقديم الطهطاوي أبوابَه تقديما جيدا؛ حيث جنح إلى النحو الوظيفي أكثر من التنظير للقاعدة، وإن كان هذا لا غنى عنه، لكنه مما ميز التحفة كثرة الأمثلة التطبيقية السهلة بعيدا عن التعقيدات التي مُلئت بها كتب القدامى.
ثالثا: قدرة الطهطاوي اللغوية في معالجة قضايا الخلاف بين النحويين، والنأي عنها قدر الإمكان؛ لأنه يدرك يقينا أنه يقدم سفرا يسيرا لمتعلمي النحو العربي، وقد أدرك أن هناك عزوفا عن تعلم قواعد النحو العربي بسبب جمود قواعده وكثرة فروعه، فخلص إلى أنه يريد تقديم نحو مصفى، فكان له ما أراد.
رابعا: شمول الكتاب على ثلاثين جدولا جعلها الطهطاوي تلخيصا عقب كل باب يشرحه يردفه بجدول يلخص من خلاله ما تم عرضه من قبل، أو يوجز فيه أمثلة تقرب للمتعلم القاعدة في قالب مباشر بلا تعقيد أو غموض.
خامسا: نظم الطهطاوي جمال الأجرومية، وهي المنظومة التي أنشأها، فضمنها قواعد النحو العربي التي شملتها “الأجرومية”، وهو بهذا العمل يصوغ تلك القواعد في قالب نظمي لمن يستهويه هذا الفن، وبهذا يدرك أن الأجرومية لها شأن عظيم في هذا الأمر، وإن كان نظم الطهطاوي لم ينل مثلما نالت الأجرومية، لكنه على يقين أن كل بيئة يناسبها نمط معين، وقد راعى المتلقي في قبوله قواعد لغته بطريقته التي يجنح لها.
وبهذا يتضح لنا أن الطهطاوي كان صاحب رسالة، واستطاع أن يجدد النحو العربي ويطوره من خلال مصنفه التحفة المكتبية في تقريب اللغة العربية، وفرق كبير بين من يصنف من أجل التصنيف، ومن يكون مهموما بأمور أمته، ويحمل على عاتقه أمانة كبرى، يظل يبحث دائما عمّا يعينه نحو تقديم كل ما هو نافع ومفيد لغيره، وقد وضع الطهطاوي يده على أساس المشكلة التي عانى منها متعلمو النحو العربي من جمود في صياغة القاعدة، وحشو في الفروع التي ما إن دخل فيها متعلم إلا وجد نفسه في دهاليز شاسعة، وطرق متداخلة، وأنّى له أن يعرف مخارجها؟! رحم الله تعالى الطهطاوي رحمة واسعة.