2024
Adsense
مقالات صحفية

حروف مبعثرة في غرفة العناية المركزة (١٨)

آهات تعتصرها لحظات الوداع

سميحة الحوسنية

كانت الساعة الثانية صباحًا عندما بدأت الرياح تعصف الظلام وتحتضن دلامه.. وتطرق على النوافذ بعض حبات المطر تستجدي الدفء من صقيع الصمت الذي يخيم على المكان وعواء كلاب ضالة توقظ الأطفال من أحلامهم البريئة… الحياة تبدو صامتة لا شيء سوى الحديث عن الموت وتراكم الجثث التي في كثير من الأحيان لا تجد من يكرمها بالدفن وقلوب خائفة من الاقتراب لتقبيل الأرواح الغالية عليها.

المشهد مؤلم في الطرقات.. رائحة البشر لم تعد تمتزج مع النسمات العابرة. الأبواب مغلقة وقناديل الشوارع أصابها النعاس؛ فلا أبواق توقظها.. ولا صوت الأنفاس والخطوات.. أنباء المنية تنتشر بسرعة البرق.. الكل منشغل بعائلته ونفسه.. هناك من يصارع الحمى، فينتصر في معركة البقاء، وهناك من جعلته طريح الفراش، فتكون نهايته الأكفان.

كانت عائلة خالد تنتظر مولودها الصغير بعد أن شعرت شمسة بآلام المخاض.. وهمّ خالد لاصطحابها إلى إحدى المستشفيات القريبة لتكون تلك الرحلة الطويلة التي لا أمل فيها للعودة.

خالد شخص متقاعد من العمل.. يعمل مدربا لتعليم القيادة بعد تقاعده، ولديه خمسة أطفال في أعمار متفاوتة أحدهم من ذوي الاحتياجات الخاصة.. أصيب بشلل رباعي منذ ولادته.. فكانت العائلة تقدم له كل الاحتواء والاهتمام.. وبسبب الالتزامات والديون التي تكالبت على خالد؛ اضطر إلى العمل لتوفير لقمة العيش.. فكان بحكم عمله يخالط الكثير من المتدربين، وبالرغم من التزامه بالإجراءات الصحية وحرصًا على سلامة أسرته فإن أسياط الحمى بدأت تجلد جسده حتى وهن وابتعد عنه الجميع؛ لكي لا يصابوا بالفيروس.. بينما كانت زوجته شمسة ترقّ لحاله وتزوده بالماء والأكل الذي بدأ يعافه حتى شمّ رائحته.. مضت الأيام فأصيب أحد الأطفال بالحمى، فكان حملًا ثقيلًا على شمسة التي تحمل في أحشائها روحًا صغيرة.. ولكن أمومتها وحبها لعائلتها كان أكبر من خوفها بأن تصاب بالمرض.. توفي (أحمد) طفلهم الذي لم يقوَ جسده النحيل على تحمل لسعات الحمى.. ساد الحزن العائلة.. فكانت أيامًا بنكهة الموت لا يد صديق تربت على كتفيك.. ولا مواساة الأحباب.. الكل مبتعد وخائف من الوقوع في ذلك البلاء إلا صوت رنين الهواتف النقالة التي لا تلتقط أنفاسها من كثر المعزّين.. مرت الأيام وتماثل خالد للشفاء.. بدأت الحياة في ذلك المنزل كئيبة بعد فراق أحمد.. إخوته وأمه في صراع مع الذكريات.. كل ما في المنزل يذكرهم بالصغير.. بعد فترة تم رفع الحظر، وبدأت الحياة تدب بشيء بسيط جدًّا.. ما زال الخوف مسيطرًا على المشهد.. وما زال (كورونا) ينقض على فريسته ويلتهمها، بسرعة قصوى قررت العائلة الذهاب إلى منزلهم القديم الذي يقع بالقرب من بيت العائلة الكبيرة لحين انتهاء الوباء.. فكان قرار خالد بعدما أصبح البيت يضيق عليهم بسبب وفاة أحمد.

بعد مرور الأيام عاد خالد إلى عمله ليصطحب معه عملاقًا آخر يلتهم زوجته وجنينها بعدما شعر ببعض اللسعات تهاجمه من شتى الأماكن لتصاب (شمسة) بعدها وتغرق في همومها وانتهاش (كورونا) لجسدها المتعب لتقع بين فكيه، فكانت في صراع مع المرض ومحاولتها لتستعيد صحتها.. فصغارها بحاجة ماسّة لعنايتها وخاصة (عماد) الذي يحتاج إلى رعاية .. مضت أيام وشمسة طريحة الفراش، فنال منها المرض.. فلم تعد تتحمل ذلك الهجوم.

عندما وصلا إلى المشفى كانت شمسة تهذي من شدة الحمى.. أولادي.. يا خالد، خلي بالك عليهم وخاصة عماد.
يرد عليها خالد: إن شاء الله يتقومي بالسلامة يا شمسة وبتنوري بيتك.
شمسة: سامحني يا خالد.. حاسّة بأن الموت قريب مني.
خالد: لا يا شمسة كلها حمى وبتروح.. خلي إيمانك بالله قوي.

غابت شمسة عن الوعي.. وأسرع خالد في طلب المساعدة من الطاقم الطبي.. وتم نقلها إلى غرفة العناية المركزة.

انبلج نور الصباح وقد غلب النعاس.. خالد الذي افترش أرضية المشفى ليهنأ ببعض الساعات للراحة لم يوقظه فيه بكاء صوت الصغيرة وابتسامة الممرضة بل أيقظه صوت تختنق فيه الحروف قبل خروجها.. فتتلعثم لبعض المفترشين في الممرات حين طرقت مسامعه صوت الممرضة وقد اغرورقت عيناها بالدموع تطلب من زميلتها أن تبادر في إخباره.. فلم تستطع.. فغادرتا المكان ليقوم بإيقاظه.. انهض (خالد) لرؤية أهلك.. استيقظ متسارعًا لاحتضان مولودته الصغيرة وتقبيل جبين زوجته ودقات قلبه تسابق خطواته إلى غرفة العناية ليرى وجهها مغطّى وسط صمت كل الأجهزة.. نامت شمسة وسط ضجيج المرض.. قبل أن تبصر صغيرتهم النور وليواجه خالد تلك المسؤولية الجسيمة ومصيبة فراق زوجته وجنينها.. كان المشهد محزنًا عندما أراد الصغار رؤية أمهم خلف الزجاج لتتعالى صرخات (عماد) الذي يبلغ من العمر ١٤ سنة.. فكانت آهاته تكسر ذلك الحاجز الذي يفصلهما عن بعض.. وتعبر بلغة الحروف التي تراكمت خلف قضبان شفتيه المكلومتين.. رحلت شمسة وجنينها.. ولروحهما السلام.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights