قصة… ذنب لا يغتفر (الجزء الثاني)
بقلم – بلقيس البوسعيدية
كانت العلاقة بين جديّ ووالدي- رحمه الله- علاقة وطيدة قائمة على أسس متينة من المحبة والمودّة والطمأنينة، كان والدي رجلًا في غاية الإستقامة، ذو سمعة طيبة كرائحة الياسمين، كان كثير الدعابة والهزل مع جديّ على عكس عمّي الذي كان دائمًا ما يقسو على جديّ بطريقةِ كلامه وتعامله معه، وبنبرة صوته التي يقشعرّ منها بدنيّ.
مضى على وفاة والدي شهر كامل، شهر من الحزن والبكاء والشوق والحنين لروحه الطاهرة التي لطالما شعرت بها وهي تربّت على قلبي.
انتقل جديّ للعيش معي في منزل والدي الذي بدا في عيني خاويًا وموحشًا كالقبر، لم يحتمل قلب جدي الحزن العظيم الذي هبط فيه برحيل أعز ابن له، أصبحت روحه ضعيفة وهشّة جدًا لا تحتمل الوجع أكثر.
أشارت الساعة الجداريّة إلى الرابعة عصرًا، وتراقصت ظلال النخيل الباسقات على جدران الغرفة التي تواجه الباحة الأماميّة، استرجعت ذكريات الطفولة مع والدي، ذكريات محفورة بين جدران قلبي، وفي لحظة صمت وسكون عميق، اجتاحني الحنين إلى تلك الأيام التي قضيناها بسلام؛ فتجمعت بحيرات الدموع في عينيّ، لمح جدي حزني الذي بات واضحًا في نبرة صوتي وملامحي وهزلي، وازداد تعمقه فيّ حين مرض جديّ مرضًا شديدًا ألزمه الفراش، ضعفت روحه بعد أن أجهض قلبه الكثير من نبضه، ونزف جسده الكثير من قوته وصلابته، لأول مرّة أرى فيها جديّ القويّ والمناضل مهزومًا، يأكل التعب من بريق وجهه دون أن يملك القوة لمقاومته.
ذات صباح استيقظت على صوت نعيق الغراب المزعج فوق نخلة عالية تتوسط منزلنا، بدا صوت نعيقه مزعجًا، أوجست في نفسي خيفة منه، فتذكرت حديث والدي عندما كان يخبرني عن علاقة الإنسان مع الغراب قديمة الأزل، وكيف دلّ قابيل على دفن أخيه هابيل، وكيف علمنا أن ندفن موتانا ونهيل عليهم التراب، ولطالما أخبرني والدي بأن ظهور الغراب ونعيقه نذير شؤم.
أخذت أتربص به وهو يقف على مرمى بصري ينعق فوق رأس النخلة كأنه يعلن بأن شيئًا سيىء سيحدث في ذلك اليوم، صوبت بندقية الصّيد التي أحضرها لي والدي- رحمه الله- نحو السماء وأطلقت رصاصة في الهواء، علا صوت البندقيّة التي هزّت ودوّت في أرجاء المكان؛ فطار مبتعدًا حتى توارى كنجم في مطلع الفجر، وأيقنت أنه لن يعود ثانية.
هرولت مسرعة لأخبر جديّ عمّا حدث بيني وبين الطائر المشؤوم، فقال بصوتٍ خافتٍ وهو ينفث الدخان من فمه:
“لا تخافين يا بطلة، لن يحدث شيء سوى ما كتبه الله لنا، وكل ما يأتي من الله هو سعادة وخير للجميع”.
“إذا كنت لا تخاف على نفسك، فراعي مشاعري يا جديّ، يتمزّق قلبي حين أراك تنفث هذا السّم من فمك، روحك غالية عليّ”. قلتها وأنا أسحب السّيجارة من بين يديه.
فقال بنبرةٍ حزينةٍ:
“إنها آخر لذّة لي في هذه الحياة يا ابنتي، دعيني استمتع بها فلم يبق من العمر أكثر ممّا مضى، ها أنا ذا أنتظر الموت على سريرٍ باردٍ كما ترين”.
لطالما شعرت بالحزن والخوف عندما كان يتحدث جدي عن الموت وكأنه قريب منه، يقاسمه الأكل والشرب والوسادة. لقد أخذ الموت من روحي الكثير، فلا أعتقد بأن قلبي سيحتمل فاجعة موت أخرى.
جديّ هو أملي وقوتي الوحيدة في الحياة، فإن أخذه الموت كيف ستبدو الحياة من دونه؟.
عمّ الصمت بيننا وكأن ما قاله جديّ قد جمّد رغبتي في الكلام والحركة، ثم شقّ صوته سكون المكان الناعس طالبًا مني إعداد فنجان قهوة له.
بدا صوته منقطع الأنفاس، رافضًا الخروج من بين شفتيه.
دلفت إلى المطبخ وأعددت له فنجانًا من القهوة، وجدته غاطسًا في فراشه دون حراك، مستسلمًا للموت، رغبت في الصراخ، في البكاء، في الركض ولكن لحظتها بدا جسدي مشلولًا، لا فرق بيني وبين جدران منزلنا البكماء.
أخذ الموت أعزّ وأحبّ إنسان إلى قلبي، مات جدي وأحسست أن جدارًا عاليًا كنت أستند عليه تداعى أمام عيني دون أن أستطيع تحريك ساكن، شعور آخر من الفقد بات جاثمًا على صدري.