جعلْتَني أحب زوجي
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
في إحدى مؤسسات العمل صعد أحمد السلم ليباشر عمله، وفي منحى منه قابلته إيمان، وقد ألقت عليه السلام؛ ورد محيّيا إياها، وكان قد التحق بالعمل في هذه المؤسسة منذ أشهر معدودة، وبعد فترة من الزمن جمعهما نفس المكان، لكن في هذه المرة استوقفته إيمان من خلال وقوفها أمامه كلما حاول المرور حالت دون ذهابه؛ وسرعان ما ألقى سهامه صوبها، فوقعت عيناها نحوه؛ فجاشت بكاء، وكأنها رأت وقرأت أسرارا في عينيه!!
انصرف أحمد إلى مكتبه، وقبل نهاية الدوام وجدها تطرق بابه، فسمح لها بالدخول؛ وإذ بها تطيل النظر إليه وهي واقفة، وبدأ أنين بكائها يعلو رويدا رويدا؛ فطلب منها أن تهدأ وتستريح، وبعدما هدأت سألها عن سبب بكائها كلما رأته، فقالت له: لست أدري كلما نظرت إليك أحسست أن بداخلك بحارا عميقة، وكأن شيئا ما يجمعنا في هذا الإحساس، واستمر الحديث بينهما، وكانت قد تحدثت عن حياتها وأسرتها في فضفضة أخوية، ولعله أحس أن هناك أمرا ما يؤرقها، فذكرت أنها من أسرة كريمة تعيش بالقرب من مكان عملها، وهي متزوجة ولها ابن عمره خمس سنوات، ولم تتطرق للحديث عن زوجها، فاستقرأ من خلال حديثها أن الحياة الأسرية بينها وبين زوجها تفتقد المودة والرحمة، وأكملت حديثها في ألم حتى نهاية الدوام.
وأدرك أحمد في هذه الجلسة أمورا رأى أنها ربما تكون سببا في تكدير صفو حياتها مع زوجها، فأخذ على عاتقه أنه سيبدأ معها معالجة هذا الأمر، وخلال عدة أيام تلت لقاءهما لفت انتباهه أنها رهينة ثياب واحدة تأتي بها كل يوم، وتعلو وجهها أحزان وآلام تفقدها نضارتها؛ حيث كان عمرها قبيل الثلاثين؛ فأدرك أن هذا الأمر له علاقة مباشرة باستقرار حياتها الأسرية، لكن كيف سيتحدث معها في هذا الأمر؟
ظلت إيمان عدة أيام لا يراها أحمد، وعلم من إحدى زميلاتها أنها مريضة؛ لذا فهي في إجازة، وانتظر حتى عادت إلى عملها، وكانت قد تحسنت صحتها، وجاءت إلى مكتبه تسأل عن شيء ما، ولم يكن موجودا، وانتظرت حتى عاد إلى مكتبه، ودار بينهما حديث طويل، وكانت قد تساءلت وهو يتحدث عن سر وفائه لزوجته بعد وفاتها، وقد لاحظت في كلامه أنه يُكنّ لزوجته كل حب وتقدير واحترام، فقال لها: إنه الرضا، الرضا بكل شيء، والتسليم بقضاء الله تعالى، فكم كنا نتمنى أن نعيش معا أكثر وأكثر، ولكن.. الحمد لله على كل حال!!
تذكرت إيمان حالها مع زوجها، وكم أساءت إليه كثيرا بمعاملتها له، وأنها كانت لا تريد أن تنجب منه بعد ذلك، وقد أقنعت نفسها أنها -لا محالة- على موعد مع فراقه خلال الأيام المقبلة، ومن ثَمَّ لم تصبح قادرة على إظهار أي ملمح من الاهتمام بنفسها داخل أسرتها؛ مما تسبب في ظهورها أمام الآخرين بنفس المظهر وهي في أبهى عمرها، وأشياء كثيرة تذكرتها، وكأنها تمر مسرعة أمام عينيها اللتين تنهمران دموعا، وفي لحظة إفاقة ومراجعة نفسها من خلال كلمات أحمد التي أثرت فيها كثيرا، وكان قد أحس بذلك؛ فوجدها فرصة أن يؤكد لها أن تعيش حياتها بكل رضا، وأن تحيا مع من يحبها قبل فراقه خاصة وأنه علم من كلامها أن زوجها يحبها ويحترمها ويقدرها كثيرا، فيوما ما سيرحلون أو نرحل عنهم، ولا بد أن نعيشها بكل ما فيها، فهناك أشياء جميلة في حياتنا، وما أكثرها!!
وأحست إيمان بما في عمق رسائل أحمد لها، وفي جلستها قررت أنها ستتغير؛ لتغير حياتها وترضى بما تحمله لها، وفي صباح اليوم التالي رأى أحمد ما سرّه منها؛ حيث تبدد حزنها، وأشرق وجهها، وعلت شفاهها ابتسامات مضيئة، ولاحظ كثيرون تغيرا في أدائها ونشاطها اليومي، وبعد عدة أسابيع علمت إيمان أن أحمد سيغادر مكان العمل إلى مكان آخر؛ فحزنت لفراقه حزنا شديدا هي ومن يعرفه؛ حيث كانوا يعدونه أخا ناصحا لهم يحسن الاستماع إليهم، ويرشدهم إلى ما فيه الخير لهم، وعندما همَّ بالذهاب في آخر لقاء، قالت له: أسال الله تعالى أن يكتب لك كل خير، ويوفقك في عملك في كل مكان، وأردفت بكلمات كانت بمثابة أثر من تلك الآثار الطيبة التي تركها أحمد في مكان عمله، وما أحوجنا إليها! :إنني لا أنسى لك ما فعلته معي، وكنتَ سببا في المحافظة على أسرتي، وقد أريتني الحياة في وجهها الجميل، وبددت ظلاما كنت سأسير في خضمه، ولا أعلم طريقا للنجاة منه، ويكفي أنك (جعلْتَني أحب زوجي).