2024
Adsense
مقالات صحفية

الراحلون

مريم شملان

بدأت مشقة الرحيل، تجمع أمتعةً هزيلة باكية؛ تلك هي فتاتنا، تمضي مُمسكةً بيد أبيها الصامت، الهادئ، قوي الشكيمة، ذو هيبة يخفي معالم حُبه للآخرين بوجههِ البشوش، غاضب على ما أتاه من أحبته، يجمع شتات نفسهِ بنفسه، يقف تحت ظل شجرة (الغافة) ذات الظل الوارف والطول الشاهق، والجذع الكبير يشهد على من سعوا لِظله في موسم الصيف عابرين أو قادمين، ليرتاحوا بظله، وفتاتنا وأبيها هنا قد قدموا ليكون لهم محطة عُبور يَقفان في انتظار أحد العابرين بذلك الوقت أن يمر عليهم، إما بدابة للركوب أو (موتر) يعبر بهم إلى مطافٍ بعيد.كم هي صعبةٌ الغربة، ولكن عشقها شئ قريب للقلوب والنفوس المُتعبة.

وقف المُهاجر وابنته الصغيرة نصف نهار، وها هي تتهادى إليهم( البوسطة).. بالية يتيمة، لا يوجد من يُنافسها بذلك الطريق الترابي، الذي يتوسط (الفريج)، قادمة من مكان بعيد، تجر معها الأمل لتحقيق ما هم عازمين عليه.

كل الذي شفته غدا ما يهمني
عابر ولا لي.. قوتن مخنوق

تارك بلادي والعزوم تشلني
طاير جناحي.. واصلن لفوق

لو هي بعيدة درب ما بتحدني
فوادي نحى باغي وما ملحوق

أتبع لذي. راحوا وشوري يدلني
بمشي وراهم لو كسير أَلسوق

يستقلوا (الموتر)؛ فتاتنا وأبيها وهي مذهولة، ترى فتيات الفريج عائدات من مشوار كانت بالأمس قد قامت به لرعي الأغنام وجلب الماء وجمع الحطب، بخطواتٍ سريعة للحاق بها لِوداعها بالصيحات والجري خلف الموتر لمسافة نهاية الفريج، ثم اختفين عن ناظريها، بعدت عن مكان كان كل شئ لها فيه، واليوم لا شئ لها سوى مجهول لا تعلم أين ذاهبة أو متجهة!

بنظرات أبيها الحنون، يَبتسم لِيجعلها تطمئن، ليمضوا أياماً بالطريق لكي يصلوا المكان المقصود. للذهاب والرحيل الخوف قد ارتسم على وجه فتاتنا، مذهولة بين الخوف والاستسلام، ويُخبرها أبيها بصعود المركب، فتقدم قبلها ليصعد وهي من خلفه تمضي تمد خُطاها، مخنوقة بنبضات قلبها التي لم تتوقف من الخوف وعدم الطمأنينة، وذلك من حجم المركب، والغرباء من حولها؛ فهم غير مألوفين لديها ولم يكن لها معرفة بهم قبل في حياتها، وظلت ممسكةً بدشداشة أبيها وتتبع خُطاه، حتى أوصلها (الخَن)، جلست بداخله وهو بجانبها.

تمر الأيام وهي بالبحر لا تعلم أين هي ذاهبة، وتحدث نفسها، إننا سنعود بعد أن يزور أبي أصدقائه، لكنها كانت قد وصلت لحياة مُختلفة، لتعيش بين أناس لا يفقهون من قولها إلا الصمت، دنيا كبيرة وحياة تقاليدها غريبة، ومجتمع بعادات وعقائد وشعائر متعددة، عكس الذي رأته في حياتها السابقة، لتستمر حياتها لاكتمال الفراق والهجرة، أدركت حينها أن أبيها قد ألِفَ حديث الغرباء من رحلاته السابقة، وأخذ يحثها على العمل بالنهار مع سيدات البلاد التي وصلوا إليها، والتحدث مثلهن، وتعلم ما يقمن به من طهي وأعمال يومية برفقة أُخريات قد قدمن من قبل في هذه البلاد.

تمر الأيام، والأب يستمر بعمله بتجارة الذهب، وله السمعة الطيبة في هذه البلاد، الشهور والأعوام تمر عليهم بكل تفاصيلها، أيامًا وليالي، مُجبرة-فتاتنا- فيها أن تتقن أعمالهم وتخدم أبيها، والذي أصبح كهلاً متعبًا، وما زال مستمرًا يُغالب الزمن ويقهر المرض، ولكن أصبح الأمر محالًا، فليس هناك من أمل بالعودة للوطن؛ لهذا ما كان من أبيها إلا يتم حدثًا مهمًا لمن يَطمئن قلبه إليه ويأمر بزواجها ليطمئن على حياتها من بعده، فزوجها بشاب كان يعمل لديه في تجارة الذهب.

استمرت الحياة وتناست- فتاتنا- ما لها في وطنها من أهل وأقارب، ربما ما زالوا يذكرونها بعد وفاة أبيها، وانشغالها بحياة الزواج التي لم تستمر كثيرًا حتى انتهت بموت الزوج، لتبقى هناك وتُكمل عمل ما خلفه له والدها وزوجها، واستمرت مثل كل الأعوام، تعيش في بحبوحة الخير الوفير، وكسبت مهارات وتعليم وحياة مختلفة، ولكن ما زال الوطن يبعث بشوقه لها، لتقرر السؤال والتقصي من الذاهبين والعائدين إلى تلك الديار البعيدة عنها بالجسد، الساكنة بالروح، لتعلم أن الديار الغالية لم يبقى لها فيها إلا النسيان، وأن العمة الوحيدة لها ما زالت على قيد الحياة لا تتذكرها إلا بملامح عابرة؛ فقررت الزيارة للوطن، إلى الأم التي هاجرت قسرًا عنها، لتريح أنفاسها بذرات ترابها، وحرارتها، ورطوبة صيفها، وبرودة شتائها، وتنتعش روحها بزخات المطر والرعد، والبرق، ولهيب الشمس الحارقة، ورائحة الأشجار…

إنه الوطن الرحم الذي لا يلدنا، بل نسكن فيه ونلتصق بدفئه، وترابه، وتعبه، وشقائه، هو راحتنا، والوسادة التي لمخدعنا هناء، ننام رغم دموعنا الساقطة من الألم.

داري صباحك… وصلت مشتاق داويني
مطراي مايك لنا… من طينها بروا
روحي عليلة… أنا ترابك يدفيني
تعبان يا راحة… فوادي من القسوا
شوفة عيوني… دربهم ما بينسيني
حبك كما دجلة..، طوي. موصول بالعنوا

أربعون عاماً من الفراق، لِتصل وهي تمتص تعب الكِبر وشوق الأرض التي تركتها، كانت تأمل إنها ستبقى، ولكنها ما إن مرت أيام حتى قررت العودة والرجوع من حيث أتت، لقد أخذوا منها طفولتها فلم يعد ذلك الجمال الذي بقلبها باق، فالجميع هرِم رغم إنه لم يتغير شئ من معالم (الفريج)، غير صغاراً كبروا، وأطفال يلعبون ويستظلون شجرة( الغافة)، التي كانت لها هي وأبيها يوما ما، ينتظروا تحت ظلها من يمر عليهم للرحيل.

——————
1-.. الغافة: شجرة ظليلة
2-الموتر:(السيارة ذات المحرك)
3-الدجلة:(مياه قعر البئر)
4-الداشداشة:( لباس للرجل )
5_الفريج: تجمع سكاني به منازل متفرقة من الأطراف
6_البوسطة: السيارة المُغلقة

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights