نافذة من حياة السلطان الراحل قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه باني النهضة المباركة
حمود الحارثي
العظماء لا يرحلون، وإن رحلوا جسدًا يبقون أثرًا طيباً في ذاكرة الزمن إرث خالد، والوفاء للراحلون معقود على نواصي أبناء سلطنة عمان الكرام الأوفياء.
ونحن نقترب من أيامنا النوفمبرية المجيدة، نستذكر معها الذكرى الثالثة لرحيل باني نهضتها المباركة، فحياته طيب الله ثراه تعتبر نموذجًا نادرًا لتاريخ النضال السياسي من الطراز العالمي الرفيع، وله رمزية قومية، وطنية، إجتماعية من التكوين إلى الرحيل.
إذ أن شخصية السلطان قابوس تفردت بسمات لها الكثير من الرمزية البروتوكولية العالمية، والسياسية، والعسكرية، والوطنية، والقومية، والإجتماعية التي ذاع صيتها ليس فقط على مستوى سلطنة عُمان، والخليج العربي بل تعدت جغرافيتها ذلك بكثير، ولا غلو إن قلنا قد بلغت كافة أقطار المعمورة من أقصاها إلى أقصاها.
والمتتبع الفطن لشخصية وسيرة حياته -طيب الله ثراه- التاريخية يقينًا سيمخر عباب التاريخ السياسي، والديني، والقومي، والعسكري والإجتماعي، والمدني عبر حقبة من الزمن ليست بالقصيرة، استطاع هذا القائد العظيم خلالها إستعادة أمجاد سلطنة عمان، ومكانتها بين دول العالم بما تستحقه من مقام رفيع، بل والمحافظة على إرثها الخالد على مدى سنوات حياته التي قضاها في الحكم وما قبله المتخمة بالأحداث العسكرية، والسياسية، والإجتماعية والإقتصادية التي جاءت في ظروف صعبة للغاية لا يمكن التكهن بنتائج رؤيته رحمه الله إبان توليه مقاليد الحكم في البلاد في عام ١٩٧٠م، حتى على مستوى مخيلة العقل المتفاءل جدًا جدًا بشكل قطعي؛ حيث الظروف المحيطة لا تنبأ بشيء يدعو للتفاءل، ومظاهر الحياة في شتى مجالاتها كانت في ظلام دامس، فأي فجر جديد سيشرق على أرض وواقع حالها آنذاك يتحدث عن نفسه.
يقينًا مطلقًا بأن المعروف لا يعرّف ولكن لمقتضى السرد ستكون البداية بالتعريف بشخصية السلطان الراحل باني النهضة المباركة لسلطنة عمان.
هو السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور بن فيصل بن تركي آل سعيد البوسعيدي، من مواليد ١٩٤٠م، المولود في مدينة صلالة بمحافظة ظفار من سلالة أصيلة متأصلة متواصلة في حكم سلطنة عُمان، أمتدت منذ عصر الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، ووالدته السيدة الجليلة مزون بنت أحمد المعشنية رحمة الله عليها، ومن أكابر شيوخ محافظة ظفار.
تلقى في بداية طفولته مختلف العلوم الدينية، والتعليمية، والتاريخية، والسياسية التي تعنى بتاريخ سلطنة عُمان الداخلي، وبشؤونه المحلية على يد أساتذة عمانيين؛ كالأستاذ الشيخ حفيظ الغساني رحمة الله عليه، بعدها تلقى دراساته العليا السياسية والعسكرية في إنجلترا ملتحقًا بأكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية التي تخرج منها برتبة ملازم ثاني، ليعود بعدها لأرض الوطن مستكملا مسيرته التعليمية والمعرفية في مختلف العلوم، لا سيما شؤون أمور الحكم الذي تولى مقاليده في عام ١٩٧٠م.
لم تكن كما هو معلوم بداية السلطان الراحل مفروشة بالورود، إذ لم يجد سوى الحجر والبشر، وأرض مترامية الأطراف ذات طبيعة متنوعة منها جبلية، وصحراوية، وأودية إتسمت بتضاريسها الصعبة الممتدة لآلاف الكيلومترات، تحدها شواطئ بحرية متصلة من أقصى محافظة مسندم إلى أقصى محافظة ظفار، وأوضاع تعليمية، وصحية، وإسكانية، وإقتصادية متردية للغاية، وطرق وعرة، وخدمات لا تذكر في دولة منغلقة على نفسها، منعزلة عن العالم تحيط بها العديد من الإضطرابات الدينية، والأمنية، والسياسية، والعسكرية، كان أهمها خطر التمدد الشيوعي من جهة الجنوب في ظل وجود تفكك داخلي، وهجرة للكفاءات الوطنية.
إلا أن كل تلك الظروف، والأخطار المحيطة لم تنل من عزيمته في المضي قدمًا، ولم تثبط من همة هذا السلطان العظيم المحب، والغيور على وطنه، ومجتمعه معلنًا عبر أثير وسائل الإعلام المتاحة في ذلك الوقت خارطة طريق ما زالت تتردد أقوالها المأثورة في مجالس العمانيين، تتتاقلها الأجيال جيل بعد جيل نذكر منها ( سأعمل بأسرع ما يمكن لأن تكونوا سعداء)، وآخر ( سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر )، وفي آخر يدعو إلى الوحدة الوطنية، ودعوة أبناء سلطنة عمان المتواجدين في الخارج لسرعة العودة لأرض الوطن للمساعدة في بناء النهضة المباركة (عفا الله عما سلف).
تزامنا مع إعلانه -طيب الله ثراه- للتعبئة العسكرية، والحرب على المعتدي الشيوعي، وهو قائدًا لقواته المسلحة بكل بسالة، ورباطة جأش حتى تم تطهير الوطن العزيز من العدو الآثم؛ معلنًا للنصر المبين من ساحة الشرف في أرض المعركة.
لتبدأ بعدها معركة إصلاح الشأن الداخلي، وإنطلاق فجر النهضة المباركة التي بدأها بتوحيد صف الشعب العماني، والإنفتاح على العالم، وتأسيس حكومة، وهيكلة للوزارات، وتوفير للخدمات في مختلف المجالات في أولويتها التعليم، والصحة لتتواصل بعدها عجلة التطوير، والتنمية على أرض سلطنة عمان على مدى خمسة عقود من الزمن ( ١٩٧٠ – ٢٠٢٠م ).
نعم خمسون عامًا من العمل الجاد، والتضحيات الجسام نقلت سلطنة عمان نقلة ليست نوعية فحسب إنما جبارة لا تقاس بعمر الزمن، شهدتها كافة القطاعات، والمجالات التي شملت كافة ربوع الوطن دينية، وسياسية داخلية وخارجية، ونهضة إقتصادية، وصحية، وتعليمية، وتقنية، وعسكرية، وأمنية، وخدمية، وصناعية، ونفطية، ورقابية، وتشريعية، وقضائية، وبرلمانية، ودستورية سخرت لها كافة الإمكانيات، والدعم من لدن مقام جلالته -طيب الله ثراه- وكان الركن الرئيس فيها، وأهمها العيش الكريم للمواطن العماني أينما وجد وحيثما كان.
حتى ترجل الفارس عن صهوة جواده فجر العاشر من يناير من عام ٢٠٢٠م عن عمر ناهز ٧٩ عامًا لينتقل إلى الرفيق الأعلى روحًا طاهرة راضية مرضية، والتي تعتبر ثالث أطول فترة حكم لزعماء العالم امتدت لخمسون عاما شهدت سلطنة عمان خلالها نقلة نوعية في مختلف الخدمات التي ترتقي بحياة المواطن في مختلف المجالات، وعلى جميع المستويات المحلية، والإقليمية، والعالمية ذات العلاقة بسلطنة عمان تاركًا ثروة هائلة عظيمة ثمينة من الإرث الخالد وطنًا وشعباً سيظل حديثا للتاريخ المروري، والمادي دهورا عديدة وأزمنة مديدة، ممهد قبل وفاته -طيب الله ثراه- الطريق، والأسباب بكل حكمة لإحدى أكبر عمليات الإنتقال السياسي شفافية، وتنظيم، وسلمية على مستوى العالم.
لتنتقل سلطنة عمان في إمتداد مزهر من نهضتها المباركة إلى نهضتها المتجددة، وعهدها السعيد بقيادة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم – حفظه الله ورعاه – .
رحم الله السلطان قابوس، وأعلى منزلته، وجعل أعالي الجنان مستقرًا ومقامًا له مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين الأبرار، وحسن أولئك رفيقا، وأدام على هذا الوطن العزيز نعمه ظاهرة وباطنه – اللهم آمين.