القروي والعاصمة.. (13-15)
خميس بن محسن البادي
الجزء السابق ساق لنا هجر شكيل لسهيلة في المضجع والمسكن وتعرضها لخسارة تجارية ساعدها هو في تخطيها، وباعت أصول مؤسستها التي ابتاعها شكيل، وألغت عملها التجاري بشكل نهائي، وحين حاولت إعادة جزء من المبلغ الذي ساعدها به شكيل رفض تسلُّمه لصالح في نفسه..
سهيلة لم تعي أن الجفاء الذي عاملها به شكيل حين التقاها ليسلمها الشيك المصرفي أنه يهدف من ورائه معاملتها بالمثل علّها تعود لجادة صوابها، ونبذ جبروت تعاليها على الآخرين، كما لم تفهم سبب رفضه تسلُّم جزء من المبلغ، وهو الذي أراد به تقييدها لتكون مدينة له مالياً خاصة وهو يعلم أنها بحاجة للمال؛ حيث لم يعد لديها دخل عدا راتبها وأجرة البيت المتواضعة، وهو مبلغ بالكاد يفي احتياجاتها ومصاريفها غير الملزم هو بها؛ وبذلك وجد الفرصة سانحة فاقتنصها لصالحه عساها تكون أساليب ضغط عليها لتتخلى عن غرورها وكبريائها، وانتهت إجازة سهيلة وباشرت عملها، ويبدو أن ما حدث لها وإلى الآن لم يؤثر فيها؛ فأسلوب تعاملها كما هو لم يغير منها شيئاً، وترى ما حدث لا يؤدي للسماح لها بالنزول عن عرش كبريائها وتمريغه في وحل الإحباط والانكسار من وجهة نظرها، فهي ما تزال صاحبة المنصب الوظيفي المرموق وصاحبة الشهادة الجامعية التي حازتها بتصميم وجهد شاقين دون أن يمن عليها أحد في ذلك، هذا معتقدها ومنهجها وتفكيرها، فمن له حق عليها ومن باستطاعته أن يغير من طبعها هذا؟، ومن الذي يمكنه أن يعيدها إلى طريق الحلم والتواضع ونبذ الغرور من ذاتها؟، وكأنها قد نسيت مواقف شكيل النبيلة معها وتحمّله إلى الآن نزقها، والذي بدا أن كل ذلك حتى اللحظة غير كافٍ لكبح لجام غرورها وتعنتها، ولكن وكما يقال دوام الحال من المحال.
ثمة أمر يلوح في الأفق، فبعد بضعة أسابيع يبدو أن الهجر الشرعي الذي اتخذه شكيل بحق سهيلة ووقوفه إلى جانبها في أثناء محنتها وطرق تعامله معها في بعض المواقف والتزامه بواجباته نحوها خلال فترة الهجر أتت بنتائج جديدة في حياتها، وكأن شكيل بدأ بذلك يحصد ما غرسه؛ حيث ها هي سهيلة بدأت تتودد إلى شكيل وتختلق الأعذار للقائه، ولكنه وهو الذي عرف أسلوبها في الحياة الذي لم يكن يتوقعه منها، فلا بد أن له توجهاته ونياته نحوها نظير ما سببته له من متاعب، وحتى يطيح بها من برجها الوهمي ويعيدها إلى ما كانت عليه في صباها بالقرية، دون أن يسعى إلى الانفصال عنها، فهي ذكرى حبه الطفولي وقبله احتراماً وتقديراً لأهلها، ورغبته الجادّة في إصلاحها وتقويم اعوجاج فكرها وأسلوب عيشها، ولمّ شملها بأهلها ليكون رضاهم عنها رصيداً لها في الآخرة، كما له هو الأجر والثواب عن أفعاله الخيّرة هذه تجاهها، ولهذا أخذ يصدها بشيء من اللطف ويرفض لقاءها بأعذار مختلفة؛ حتى لا يفقد في نفسها أمل العودة إلى بعضهما وسعيها نحو تغيير أسلوب حياتها في الوقت الذي ما تزال هي على حالها في التقرب والتودد إليه، ولا شك أن نتائج هذا التغيير الذي طرأ على سهيلة ستكون له مآلات أخرى مع شكيل الذي بدوره أوضح لها صراحةً بأنه يعي أن اللقاءات العابرة بينهما ما هي إلا لقاءات تختلقها لغرض في نفسها، وطالبها بتفسير واضح لفعلها هذا وهو الذي لم يعهد فيها هذه الطيبة منذ أن اقترنا ببعضهما، فحاولت سهيلة دحض سوء ظنه بها مؤكدةً أن ذلك ما هو إلا محض صدف، ولكنه تجاهل دفوعاتها تلك طالباً إليها إيضاح ما هي بصدده، ولم يدع لها مجالاً حول عدم الإفصاح عما في نفسها؛ وبذلك لم تجد بداً من مصارحته حول إبداء أسفها وندمها عما سببته له من مشاكل حياتية معترفة بمواقفه النبيلة معها، وبسؤاله لها عن مبتغاها منه أخبرته أنها ترغب ببدء حياة جديدة بينهما، ونسيان الماضي بمآسيه وآلامه، وأن يعود للعيش معها في البيت، ورحب شكيل بتوجهها هذا، ولكنه سألها عن مدى جديتها في هذا التوجه، فأكدت له صدق قولها ونيتها، وبدوره لم يمانع من قبول عرضها، ولكن كانت لديه شروط لها مقابل ذلك أملاها عليها في الحال، وكان في مقدمتها وجوب تنازلها عن رغبتها بتسييرها دفة أمور الحياة الزوجية بينهما، وعدم اتخاذها قراراتهما ليكون ذلك من اختصاصه هو فقط، وله أن يستشيرها في بعض الأمور، كما له الحق في الأخذ برأيها أو رفضه دون حتى إبداء الأسباب لها، ومرافقته متى طلب منها، وإلى أي مكان كان وغيرها من شؤون الحياة الزوجية التي سيكون له القرار فيها، وعليها أن تقبل بإصلاح ذات البين مع ذويها وأهل قريتها، وعدم ممارستها الأعمال التجارية إلا تحت إشرافه المباشر إن رغبت، واقتناعها التام باسمه الحالي، ونسيان أنها أطلقت عليه ذات يوم اسماً غير اسمه لعدم نيّته باستبداله مطلقاً، ورغم أن الموقف في صالحه الآن إلا أنه يترك لها خيار استمرارها في وظيفتها الحكومية من عدمه؛ حيث إن شاءت استقالت وتفرغت لبيتها، وإن شاءت بقيت على ألّا تبخس حق أي من البيت والوظيفة في ذات الوقت، وترددت سهيلة لما طلبه إليها شكيل ورأت في شروطه إجحافاً في حقوقها كزوج له، وقد أخبرته بذلك، لكنه لم يتنازل عما قاله لها، مؤكداً منحه فرصة لها للتفكير والرد عليه ليتفق معها بشأن حياتهما بناءً لردها، فما رد سهيلة التي عُرِف عنها ما اكتشفه زوجها فيها من خصال ليست كما هو يرتجيها منها؟
ومرت بضعة أيام حتى تلقى شكيل اتصالا من سهيلة تطلب لقاءه، ولكنه اعتذر لها؛ لارتباطه بمهمة عمل رسمية خارج البلاد، وأنه بعودته سيعلمها ويحدد معها موعداً لذلك، لكن شكيل وبانتهاء مهمته الرسمية كانت له إجازة، فاستغل فرصة وجوده في البلد الموجود فيه ليقوم ببعض الصفقات والعقود التجارية التي تخص مؤسسته، ثم أخذ بعد ذلك جولة سياحية عرّج خلالها على بعض البلدان ليعود إلى وطنه قبيل انتهاء إجازته، ويتوجه مباشرة إلى القرية لزيارة والدته وأبناء قريته الذين لم ينساهم قط، بينما بدأت بعض الأرجاء من الوطن تشهد حركة تعمير مضطردة كان من بينها مركز ولاية القرية، لكن دون أن يصل ذلك إلى قريته بعد، وقد قضى شكيل الأيام المتبقية من إجازته برفقة والدته التي لم يبيّن لها اضطراب العلاقة بينه وسهيلة رغم سؤالها له، وعاد بعدها إلى العاصمة لمباشرة مهام عمله ومتابعة أوضاع مؤسسته، وجلي أنه لم يكن على عجلة من أمره في لقائه بـ(سهيلة) فرغم أنه كان قد وعدها بأنه سيعلمها عند عودته من رحلته الخارجية حين طلبت لقاءه مسبقاً فإنه لم يفعل، ولكن يبدو أنها هي من كانت تنتظر عودته بجلد مرير، فما أن عرفت أنه باشر عمله في الوزارة إلا وسارعت إلى الاتصال به لتحديد موعد اللقاء، ولكن شكيل أرجأ الموعد أيضاً هذه المرة لارتباطه بأعمال رسمية كانت مؤجلة منذ غيابه، وعليه أن ينجزها بأسرع ما يمكن، وقد أعلمها أنه بإنهائه مجمل ارتباطاته سوف يتصل بها، فامتثلت لذلك مجبرة.
وبعد بضعة أيام مضت هذا هو شكيل يهاتف سهيلة للقائها، ويحدد معها موعداً في مكان عام تم الاتفاق عليه بينهما وبلقائهما أبدت سهيلة موافقتها بكل شروط زوجها التي كان قد اشترطها عليها باستثناء إعادة صلتها بأهلها والقرية؛ حيث طلبته ورجته أن يعفيها من ذلك، لكن شكيل رفض استثناء أي من شروطه رفضاً قاطعاً مؤكداً أنه لن يتنازل عن أي منها تحت أي ظرف كان أو أي عذر من الأعذار، وعليها أن تقبل بجميعها وتوافق عليها، وفي المقابل وعدها بتكفله بما يضمن قبول أهلها لها مذكراً إياها بحرمة العقوق وأهمية صلة الرحم في الحياة الدنيا تطبيقاً للدين الحنيف، وفي الوقت ذاته منحها فرصة أخيرة للتفكير والرد عليه، وهذه المرة لم تتأخر سهيلة بردها على شكيل، فقد هاتفته وأعلنت له سر ممانعتها من قبول مصالحة أهلها، فرغم إيمانها بوجوب صلة الرحم وحرمة عقوق الوالدين فإنها محرجة من الجميع بعد السنوات التي قاطعت فيها أهلها وسكان قريتها، وأنها وجلة من عدم قبولها بينهم بعد المدة التي مضت من قطيعتها لهم، ولكن شكيل طمأنها بتوليه هذا الأمر مع أهلها طالما هي قبلت بذلك، فتم الاتفاق والتوافق بينهما، وعادت مبدئياً حياتهما المشتركة كزوجين، ليتوجها في أقرب إجازة إلى القرية لتبدأ مهمة شكيل في رأب الصدع هناك، وتسوية ما أفسدته سهيلة من صلة بينها وأهلها وكانت سبباً مباشراً فيه بحقهم، وبعودة شكيل للعيش في بيت الزوجية مع سهيلة؛ وجد تغيّرا إيجابيا مشهودا في زوجه وأسلوب تعاملها معه، ورغم ذلك فمن غير المعلوم مآل الأمور في قادم الأيام حتى اللحظة؟، ولماذا قبلت سهيلة بشروط زوجها أخيراً؟، وفي المقابل هل سيقبل والدها وأسرتها وجودها بينهم خاصة وأن الأب كان قد اشترط على شكيل بعد زواجه منها بعدم مجيئه بها للقرية ما يؤكد أن الرجل من الصعب قبوله ابنته بينهم نظير مجافاتها لهم دون سبب يذكر؟، في الجزء القادم سنعرف بقية الأحداث بإذن الله تعالى.