رجع أيلول.. بين الضريح وبين الجريح
شريفة بنت راشد القطيطية
هل جربت أن تأخذ أنفاس الغيم وتطعمها لمشتاق؟ وأن تملأ أقداحًا من الذكرى وتعبيء بها قلب راحل؟! … هل جربت أن تقف مذهولًا كمسلة عاشت من زمن الطغاة ويتمت ذكرى الغزاة، وأن تحرك طواحين الهواء بعينيك وتعبر أنهارًا دون أن تغسل يديك، تأتي مكبلًا بالعتمة ومقيدًا بلا كلمة ومرميًا بك في آخر الشهور، تلتقط عوالق السنة و تنظف النوافذ من أعشاش الطيور، وهل شعرت بخفقات رعب كيف سيأتي الصباح على كوخ باكي وبرد شاكي وأطفال لا يعرفون العد إلى العشرة .. فقط يجمعون الفتات من الفتات ويرسمون الشمس على الثلج ويكتمون صوت السنون على بعضها ويحلمون بحساء العدس؟
ليلتنا تلك كانت موحشة بين دهاليز اليتم وبين اغتراب الأرض، أسقطت لعبتي أو ما تبقى منها وأنا أصرخ بين دماء أبي وثوبي الممزق، وحطام البيت ليس معتق، لقد انهار من نفس جائر وضحكة عدو غائر، أشهد الله بجرمكم وسوف يأتي الله بالحق، خطواتنا كانت مسرعة ومتثاقلة وخائفة ومذهولة، وأي مكان نخلد فيه للنوم وثياب أبي العسكرية ملطخة بدمه وقذارتكم ، ووجهه المبتسم يمسح عني الصاعقة ويزرع في وطني حبوب قمح ستطعم الفقراء والمشردين، أي بكاء يتوسط أرضنا الخضراء التي يأمرها الشيطان بالخضوع، وأي دموع؟
تبقى وجه أمي ساجدًا بين الضريح وبين الجريح، نازحون إلى العراء كمن يلتقط ظله ويتوسد به ليله بلمسة بدر دموعه نور وأرضه قمر.
السنوات أخذت من عافيتي ومشهد الحرب يقطر دمًا، وعوالق هتاف الشؤم ينثر أبنية وأدخنة تتطاير كالغبار، رجع أيلول بوجهه الحزين معمقًا الذكرى بليلة وجع، ويد أبي تلوح بالوداع، وسقف البيت قد ضاع وأسماء لن تباع، وطنيتي والشمائل والقطاع؛ ليظل أيلول حبر دمي وغيمه أسود وقمره يتيم، عدت أسأل عن قبر أبي لأتعرف على إسمه بين المخادع النائمة في مقابر الشهداء، وزهر أبيض يحيط به وأرض رطبة تسقي حرارة أيلول من عواقب وخيمة، حولها الطغاة إلى هزيمة، واتفقوا على بيع الجموع لأحفاد الكهنة وعراة الشعور، وحولوا الأنهار إلى قبور، وحولوا الصهيونية تدرس بين التوابيت، وأخذوا الطفولة تصب القهوة على الخراف.