القروي والعاصمة.. (12-15)
خميس بن محسن البادي
من خلال الجزء السابق عرفنا عدم استقرار الحياة الزوجية بين شكيل وسهيلة ونيل شكيل شهادة الدكتوراه رغم الظروف التي يمر بها وتعرضه لخسارة مالية تسبب بها ثلاثة من عمال مؤسسته مستغلين فرصة عدم مراقبتهم، وانتظار ما سيقره شكيل بحق سهيلة نتيجة تعنتها وما بدر منها..
الهجر، نعم هو ما قرره شكيل في حق سهيلة آملاً أن تصلح من أسلوب تعاملها مع الناس، وتعود لرشدها وليس الهجر في المضجع هو ما قرره في حقها فحسب، بل في المسكن أيضاً، لكنه بقي على التزامه الشرعي نحوها؛ من حيث المسكن والمأكل والمصروفات الأخرى بما في ذلك أجرة عاملة المنزل، فرغم أن سهيلة تمتلك مسكناً باسمها فإن شكيل رأى أن من واجباته تجاها قيامه بكل ما هو ملزم به ناحيتها لا سيما وأن مسكنها مؤجر لصالحها، ونظراً لتعاطفه مع المستأجر ولأنه هو من تولى أمر تأجير البيت؛ فقد ارتأى أنه من غير الجائز أمره بإخلاء المسكن خاصة وأنه لم يتخلف عن بنود عقد الإيجار الساري المدة، كما لم تبدر منه أية ملاحظات غير مقبولة؛ ولذلك أبقى شكيل سهيلة في منزله هو(منزل الزوجية)، لكنه أنهى الشراكة التجارية بينه وبينها في المؤسسة التي أنشأها معها بداية التقائه بها وضم أصول نصيبه إلى مؤسسته الأم، فيما مارس كل منهما حياته الطبيعية من واجبات وظيفية وغيرها بينما بقي التواصل بينهما كزوجين معدومين، وقلما يلتقيان، فهو -وكما أراد- استقل بمسكن غير مسكن الزوجية فاستأثر لنفسه شقة في بناية يمتلكها، لتمضي الأيام وتتعرض سهيلة لأزمة مالية في مؤسستها التجارية لظروف معينة وأسباب مختلفة من بينها غطرستها وسوء تعاملها مع العاملين لديها ومواقفها المتعنتة معهم؛ ما أدى إلى سوء الأداء والإنتاج وربما تعمداً أيضاً أو سوء الإدارة ونفور الزبائن، ونتيجة ذلك فسدت عليها بعض البضائع؛ مما حال دون التمكن من بيعها، تكبدت على إثرها خسائر مالية كبيرة، وفي المقابل هي مطالبة بسداد بعض المبالغ لعدد من الموردين في قادم الأيام القريبة، وفي حال أخفقت عن قدرتها لسداد المترتبات المالية لهم خلال فترة زمنية حددت في إيصالات الدفع أو قد يتم زيادة مدتها والاتفاق عليها بينهم؛ فإنها -لا شك- ستواجه عواقب قضائية إن هي أخلّت بالاتفاق، وتخلفت عن السداد ومقدماً هي فعلاً تجد نفسها عاجزة عن توفير المبلغ المطالبة به، وفي الوقت عينه هي تدرك أن إخفاقها في ذلك مآله ساحات المحاكم ليقينها أن الدائنين لن يحتملوا استطالة المدة بعدم حصولهم على مستحقاتهم المالية،، إذاً كيف ستتصرف وكل ساعة تمر في غير صالحها؟، وهل ستدخل سهيلة السجن وهي صاحبة الكبرياء والمنصب الوظيفي ورائدة الأعمال المعروفة في محيطها؟، وهل ستجرد من أملاكها لضمان تحصيل حقوق الآخرين الواجبة عليها؟، كل هذه الأسئلة دارت في عقلها وهي مندهشة مما حل بها فجأة،، ولكن في المقابل أين زوجها شكيل عن ذلك ومما هي تعانيه وتكابده؟
وتخلفت سهيلة عن موعد سدادها المبلغ للمستحقين الذين توجهوا إلى القضاء للمطالبة بحقوقهم منها ليتم استدعائها أمام القاضي المختص، فأجابت عن استفساراته دون جحودها لأي من الحقوق المالية المترتبة عليها للدائنين استناداً لبراهين مكتوبة سيقت ضدها وموقعة من قبلها، لكنها طلبت متسعا من الوقت؛ حتى تتمكن من الوفاء بما هي مطالبة به من التزامات، فمنحها قاضي الموضوع مدة من الزمن اتفق على تحديدها برضا الجميع، ولم تجد سهيلة من ينقذها من ورطتها المالية التي وقعت بها، فهي متعالية حتى على رفيقاتها، ومن هم في محيط البيئة التي تعيش فيها، فمن لها غير شكيل،، لجأت إليه وطالبته أن يساعدها بعد أن شرحت له موقفها المحرج، والوقت الداهم لقرب انتهاء فترة مهلة السداد المتفق عليها معها، وقد وعدته بأنها ستعمل على إعادة كامل المبلغ له بعد ذلك، تفهم شكيل موقفها، وعرف منها مقدار المبلغ المطالبة به والأيام المتبقية عن موعد انتهاء المهلة، لكنه لم يعطها موافقته بمساعدتها من عدمها، بل كل ما قاله لها: إن الله ميسر الأمور ومطمئناً إياها بأنها بحنكتها وسرعة بديهتها وحسن تصرفها، ستتمكن من اجتياز هذه الأزمة بإذن الله تعالى لتتلافى الملاحقة القضائية ضدها، ومن خلال حديثه هذا لها لم تطمئن بأنه سيقوم بمساعدتها لا سيما وأنه لم يبدُ عليه الاهتمام بما أوضحته له، فقد يكون ظنها كذلك فعلاً خاصة وقد كانت هي فيما مضى سبباً في تعرضه لخسارة مالية نتيجة عدم متابعتها لأعمال مؤسسته؛ مما أدى بالعمال إلى استغلالهم فرصة ذلك واستيلائهم على مبلغ كبير من المال، ولهذا قد لا تسمح إمكانياته المالية بسداد المبلغ الواجب على سهيلة، أو قد يأبى مساعدتها لأسباب يدركها هو فقط؛ إذ كيف له أن يسدد مبلغا ماليا ليس له ذنب في أسباب دفعه، وفي الوقت ذاته هو في شك من تمكن سهيلة بإعادته إليه بعد أن تتحسن أوضاعها المالية إن هي تحسنت بعد هذا التعثر الكبير، إضافة إلى كل ذلك استمرار قيام الخلافات الزوجية بينهما، والتي قد تتأزم خلال مقبل الأيام، وتصبح أكثر تعقيداً وأكثر صعوبة وقابلية لاستمرارية العلاقة الزوجية، ولهذه الأسباب مجتمعة ربما لم يبدِ شكيل أي اهتمام بطلبها لعدم نيته مساعدتها فَلِم الاهتمام إذاً بأمر لا يعنيه؟ ولكن ما هذه إلا هواجس وتكهنات؛ لأن شكيل على مقدرة بسداد ديون سهيلة أساساً خاصة وأنهما ما يزالان زوجين؛ ولذلك تأبى نفسه بأن تتعرض سهيلة لعواقب مطالبة الدائنين لها، وأن أصالة معدنه وطيب معشره لا يسمحان له بالتخلي عن الغريب، فكيف إذاً والمعني هنا القريب؟ ولهذا فقد قرر شكيل أن يساعد سهيلة، ولكن وفقاً لرؤيته وشروطه، فبعد أن تركها تعيش في قلق وحيرة متعمداً، وقبل انتهاء المهلة المحددة لها بيومين ها هو يحدد معها موعداً للالتقاء بها لمناقشة الأمر الذي عرضته عليه مشترطاً عليها أن يكون ذلك في مكان عام، وليس في غيره فهو ما يزال في هجره لها، وفي الموعد المحدد التقيا في أحد الأماكن العامة التي تسمح بمناقشة الأمر بهدوء وروية، ولم يتطرق شكيل إلى أي من صفات سهيلة التي هجرها على إثرها سواء بقصد التذكير أو غيره، كما لم يتطرق إلى مناقشتها حول ما آلت إليه الأمور معها، فليست هذه من صفاته، وما مجيئه إلا من أجل ديون سهيلة؛ ولذلك كل ما فعله أنه أخرج من جيبه ظرفا ورقيا صغيرا أبيض اللون بدا أنه خالياً لا يحوي بداخله شيئاً، وناوله سهيلة دون أية مقدمات فقط كل ما قاله إن هذا قد يفيد بشيءٍ ما واستأذنها بالرحيل، وغادر شكيل المكان بينما سهيلة ما تزال جالسة مشدوهة من التصرف الذي أبداه معها زوجها، فحتى اللحظة هما زوجان، فكيف له أن يعاملها بهذا الكبرياء؟، معتبرة ذلك بأنه تصرف لا ينم إلا عن غرور وكبر، ويخلو من أي احترام وتقدير للآخر، وكأنها هي هنا سيدة الحلم والتواضع مع الآخرين، يحدث نقدها هذا لشكيل وهي في أوج أزمتها المالية بل وهي التي طلبت مساعدته، ورغم ذلك لم تذلل نفسها له وهو زوجها فكيف بالآخرين؟ ولكنها حين فتحت الظرف وجدت بداخله شيكاً مسجلاً باسمها قابلاً للصرف بقيمة المبلغ المترتب عليها كدين للموردين، ولها أن تصرفه بتاريخه مرفق به قصاصة ورقيه كتب عليها(العزيزة سهيلة بإمكانك بموجب هذا المبلغ سداد ما عليك من دين- شكيل-)، وهنا هدأت نفسها مبتسمة ابتسامة ما يعتقد أنها ابتسامة ندم لما ظنته في زوجها، وربما هي ابتسامة امتنان وعرفان في الآن ذاته تقديراً للموقف النبيل من شكيل معها، ولكن لماذا تعامل معها شكيل بهذا الجفاء؟
وغادرت سهيلة هي الأخرى المكان لتكون صباح اليوم التالي، ومنذ بداية ساعات العمل في المصرف؛ حيث اتخذت إجراءات صرف ورقة الشيك وتحويل المبلغ لحسابها الذي وزعته لاحقاً بموجب شيكات مصرفية على المستحقين ودون أي تأخير، فقد سارعت متوجهة إلى المحكمة المعنية بالأمر، وهناك أودعت تلكم الشيكات لتسليمها لأصحابها بمعرفة موظفي المحكمة المختصين؛ حيث أعلنت المحكمة لاحقاً إخلاء طرف سهيلة من أية التزامات مالية تجاه غيرها في الشكوى التي أقيمت ضدها؛ وبذلك أسدل الستار على ملف الدعوى بشكل نهائي، نعم فقد أنهت ما عليها من مطالبات بمساعدة زوجها، وهي هنا في حيرة من أمرها نحوه، فماذا ستقدم له رغم جبروت تعاملها معه كما فسرته هي؟ وكيف لها أن تكافئه نظير وقوفه إلى جانبها في الوقت الذي تخلى عنها من اعتبرتهم زملاء وزميلات المهن التجارية والوظيفية؟ ومن هم في محيطها الاجتماعي، فهل يعني ذلك أن سهيلة بدأت تلين وتكسر جبروتها وتعنتها؟، لكنها أول الذي فعلته هو أخذ استراحة محارب، فطلبت إجازة من عملها لبضعة أيام انفردت خلالها بنفسها، وآثرت البقاء في مسكنها دون أن تغادره إلا للضرورة فقط، وعكفت خلال هذه الفترة على مراجعة حساباتها الحياتية مقابل ما حدث لها، وما يمكن أن تفعله بعد محنتها العصيبة التي مرت بها، والتي تتمنى أن تكون الأخيرة في حياتها دون تكرار، وبعد تفكير عميق قررت بيع كافة أصول مؤسستها وإلغاء سجلها التجاري، وكل ما يمت له بصلة واتخاذها ما يلزم في شأن نقل العاملين لديها إلى الجهة التي يرغبون بالعمل بها أو سفرهم إلى بلدانهم، وبعد إجراءات متبعة قامت بها سهيلة مع الجهات المختصة؛ تم لها ما عزمت عليه، ولكن كيف تمت عملية البيع ولمن آلت أصول مؤسستها؟، أعلنت سهيلة في الصحف المحلية عن رغبتها في بيع أصول مؤسستها والموافقة بالتراضي بينها والعاملين لديها برغبتهم بالانتقال إلى الجهة التي تقبل انضمامهم إليها ومنهم من آثر السفر لبلده، وقرأ شكيل كغيره الإعلان، فبادر على الفور باتخاذ إجراءات الشراء للمؤسسة المعلن بيعها واختياره لبعض العمال لنقلهم إلى مؤسسته، وقد دفع السعر لـ(سهيلة) المعروض من قبلها، وضم ما اشتراه إلى مؤسسته وعمل على نقل من وقع عليهم الاختيار من العمال للعمل لديه، ورغم توالي هذه الأحداث فإن اللقاء الشرعي بين شكيل وسهيلة كزوجين مستمر بينهما، فهو ما يزال في حال هجره لها، ولكن ذات صباح شتوي، وفي الوزارة هذا مدير مكتب شكيل يدخل عليه يخبره أن سهيلة في الخارج تطلب مقابلته، وهو يستمع لحديث الرجل ذهب شكيل بفكره إلى أن سهيلة أخيراً جاءت تطلب وده ورضاه ونسيان الماضي لتكون كما هو يريدها، ولم يطل به الوقت حتى أمر بدخولها، وبعد السلام أخبرته أنها جاءته لتعيد له نصف المبلغ مبدئياً من مجمل المبلغ الذي ساعدها به أمام الدائنين، وأنها ستعيد له بقية المبلغ في وقت لاحق، وبينما هي تحدّثه رآها وهي ما تزال على خصالها التي هجرها بسببها؛ وبذلك خاب هنا ما ظنه من سبب مجيئها، ولكنه لم يبدِ لها شيئاً مما ظنه ورآه عليها من التعالي، بل رفض استعادة المبلغ لصالحٍ في نفسه دون أن يبيّن لها ذلك، وكانت حجته لها لرفضه استلام الجزء من المبلغ بأنها هي بحاجة إليه أكثر منه، ولولا ذلك لجاءته بكامل المبلغ مؤكداً لها إمكانية انتظاره بضعة أشهر أخرى حتى تستغني عن كل المبلغ وتعيده إليه كاملاً، هكذا أفهما، وعلى ذلك انتهى اللقاء بينهما،، ولكن ما الصالح الذي ضمره شكيل في نفسه ولم يبده لسهيلة؟،، هذا ما سنعرفه وغيره بإذن الله تعالى في الجزء القادم.