بين القبح والجمال؟
محمد علي البدوي
دراسة بحثية مختصرة
القبح سلوك شاذ وغريب لا يمكن أن يتوافق مع طبيعة الكون،فالخالق سبحانه وتعالى خلق كل شيء جميلا متكاملا، ولن تجد في خلق الله ثمة مخلوق أو كائن ليس جميلا..لذلك إرتبط الجمال بالأديان والرسالات السماوية ونرى كافة الأديان تحث على تقصي الجمال أينما وجد، وتطالب أتباعها بتحري الجمال وإتخاذه وإعتماده منهجا حياتيا فأصبح الحديث عن الجمال حديث عن الحياة نفسها.
والنفس البشرية بفطرتها تهفو إلى الجمال وتتوق إليه فتري كل ما حولها من أشياء وكائنات ومخلوقات وجبال وهضاب وأنهار وبحار وخلاف ذلك – مما خلق الله- جميلا يهذب الأنفس ويمنحها متعة الراحة والسكينة وهو ما تحتاجه أنفسنا علي الدوام لكي تستقيم معادلة الحياة ما بين ساعات ضغوط وتوتر جبرية وساعات هدوء وتأمل تزيح عناء وإرهاق الأولي.
والقبح هو نقيض كل شيء جميل،بل هو نقيض الفطرة والإعتدال فهو ضد الجمال الأخلاقى والجمال الروحي والجمال الثقافي والجمال المادي والجمال الفني والجمال الرياضي وحتى الجمال في ترتيب المنزل والجمال في طهي وجبة بسيطة والجمال في الحديث إلى الآخرين والجمال في الإستماع والإنصات إلى ما يقوله الطرف الآخر والجمال في التعبد إلى الخالق سبحانه وتعالى والجمال المعماري والجمال في القيام بواجبات العمل والجمال في تربية الأبناء والجمال في بر الوالدين وصلة الرحم والجمال في تقديم نصيحة لشخص ما والجمال في متابعة التعلم وعدم الوقوف عند نقطة معينة وحتى الجمال عند الشكوي والجمال في حب الله ورسوله وحب الوطن وحب الزوجة والأصدقاء والأهل والجيران وكل البشرية بدون أدنى تفرقة.
وكل ما يثير الإشمئزاز هو من القبح ويتعارض مع ماهية وجوهر الكون الذي بدأ أول مشهد تمثيلي واقعي فيه في أجمل مكان خلقه الله ألا وهو الجنة مما يشير مباشرة إلى أهمية الجمال عند الخالق سبحانه وأهمية الجمال بصفه عامة في حياتنا.
لقد إختار الخالق أن تبدأ قصة الإنسان من الجنة وإختيارات الخالق لا تكون أبدا عبثية فسبحانه أراد أن يخاطب أصحاب الألباب وأن يرسل إلينا رسالة مضمونها حب الجمال والإستمتاع به والحث على البحث عنه أينما كان ولذلك رتب سبحانه وتعالى أن تبدأ حكاية الإنسان من هناك.
ولكن بعض النظريات الحديثة التي إعتنقها بعضاً من مهاويس العصر كرست أفكارها الغريبة لتضرب جذور المجتمع وتسفه من أيقونات الجمال وتحط من شأن قيمه ومبادئه – لا شيء- سوي تحقيق مبادئ هذه النظريات الهدامة لكي يشعرون بنصر زائف.
جعلوا حربهم على كل رموز الجمال في كافة المجالات وأحاطوا أنفسهم بجيوش من الجهلاء الذين صموا آذانهم وأغلقوا عقولهم عن سماع كلمة حق وتحولوا إلى أدوات في أيدي من ينظرون لهذه النظريات،فكثر أتباعهم في كل مكان وبذلوا الغالي والنفيس من أجل محاربة الجمال، محاربته داخل النفس البشرية أولا ثم محاربته كفكرة ومنهج ثانياً.
لكن الجمال سيبقى وإن تعرض لمحنة فستكون بمثابة صرخة إستغاثة لكي ننتبه إلى ما يتم التخطيط له لكي ننحدر إلى فتنة وصراع لن يفيد أحدا.
ومن أهم رموز الجمال فن العمارة الذي يعد ذاكرة الأمم وحارس لتاريخها وهو نتيجة وأثر دائم ومستمر لمجهودات الأمم والأفراد في البناء والتعمير من أجل مواصلة الحياة بشكل آدمي.
هذا الفن(فن العمارة) يحمل ويحفظ أحداث وذكريات التاريخ والتراث والعادات والتقاليد والأعراف،كما أنه تعبير مباشر عن ثقافة الشعوب ومدي تقدمها الروحي قبل العلمي.
العمارة جوهرها الجمال والإنتقاء وهي واحدة من عدة عناصر رئيسية تشكل كيان المجتمع وتدلل على شخصيته وهويته وتطوره.
وهي أيضا تعبير عن حالة إبداع خاصة تحدث نتيجة لتوفر المناخ الملائم الذي يسمح للمبدعين من المعماريين بالإبتكار والإبداع والتعبير عن النفس.
فالعمارة هي التنفيس عما يجيش بالروح،وهي تقدم لنا عدة رسائل ما بين سياسية وإجتماعية وثقافية وإقتصادية.
ولكي تتقدم فنون العمارة لابد من توفر المناخ الصحي لكي يقدم المعماري جواهره الفنية بكل إرتياحية دون ضغوط،وبدون التأثر بأي عوامل تدفعه إلى التقليد الأعمى أو السرعة في تنفيذ الأعمال مما يحوله إلى موظف روتيني يقلد وينسخ وكأنه مجرد آلة نسخ لا قلب لها،فالمعماري الذي يطلب منه تقليد مبنى ما أشبه بالطيب الذي يطلب منه وضع خطة مالية لمنشاة سياحية.
وفن العمارة كالقلم يضرب بقوة ويبتهج بقوة ويبرز ويحلل ما يعتري المجتمع من تناقضات وأحداث لا يمكن (أحيانا) التعبير عنها بطرق مباشرة.
فهو لسان حال التاريخ وما يقدمه من روائع معمارية هو تجسيد حي للأحداث وتطورات وتفاعلات وتناقضات المجتمع بطريقة فنية تحفظ للأجيال القادمة التاريخ بطريقة مباشرة يصعب علي أي فن آخر القيام بها.
الفن المعماري يهتم بالإقتصاد ويهتم بالفقراء،ومنذ فجر التاريخ نلاحظ إهتمام المعماري القديم بالطبقات الفقيرة وحرصه علي تقديم مسكن جميل،قليل التكاليف وصحي وآمن للطبقات الأكثر إحتياجا.
أستاذنا وأستاذ الأجيال (حسن فتحي) رائد فن العمارة،وواحد من عباقرة هذا الفن في العصر الحديث له كتاب (عمارة الفقراء) يتحدث من خلاله عن ضرورة توفير مسكن آمن وجميل ومن المكونات المحلية من أجل الفقراء،وله أيضا مشروع (القرنة)وقام كذلك بتصميم مدينة(مت النصارى)ومشروع (الإدارية)بالمملكة العربية السعودية؛وكلها مشروعات تحت مسمى(عمارة البسطاء)وتعتمد كلها على فلسفة واحدة وهي:
أنه يمكن بكل سهولة وفي كل الأحوال بناء منازل جميلة ورخيصة للفقراء ومهما تناقصت أو قلت الإمكانيات المادية والبشرية فلابد من إستعادة قوة الشعور بالمكان والتواصل معه،وأنه من حق كل إنسان(الفقير قبل الغني) أن ينعم بمنزل رخيص يتميز بالجمال الطبيعي النابع من البيئة المحيطة.
العمارة الجميلة هي رؤية عميقة ومباديء ثابتة وتنقيب عن دواخل النفس البشرية،فالمنطق يشير إلى أن كل عمل معماري فريد له أبعاد نفسية وإجتماعية وأيضاً يخلق حالة من الجدل أو الإنبهار أو كلاهما معا.
تثبيت مبدأ العمارة البيئية مبدأ فطن إليه الأقدمون فقاموا بإستغلال الموارد الطبيعية المحلية،مما عزز من فكرة الإعتماد على ماهو متاح محليا، فساهم ذلك بشكل كبير في خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة(للمحليين)،وبالتالي يتحول هذا العمل المعماري الذي تقوم عليه أيدي عاملة محلية إلى رمز ووسيلة للرزق وكسب قوت الحياة،فيظل العامل يبذل أقصى الجهد بسعادة بالغة متمنيا أن تطول مدة العمل لشعوره بالإنتماء للعمل نفسه وأنه شريك فيه.
ثم تمتد العلاقة بين العامل وبين العمل المعماري أيا كان نوعه إلى ما هو أبعد من ذلك فتنشأ علاقة عاطفية بين العامل والبنايات التي شارك في تأسيسها،فيزداد فخراً بوجود مثل هذه المنشآت في حدود إقليمه وأنه أحد المشاركين في إتمام العمل،كما أنه يظل يسعى إلى المحافظة على البناية والترويج لها حتي ولو كان ذلك على نطاق ضيق ولكنه يظل عمل يجب الثناء عليه.
ومن عجائب هذا الزمان أن يتم تنظيم مسابقات للمنازل القبيحة مثل منزل(روك فيس) في بلجيكا.
هذه إحدى كوارث ومخرجات الحداثة التي جعلت بعضا من مجاذيب الحداثة يعبثون بالثوابت من خلال التشدق بمبدأ الحريات الذي يدافعون عنه فرخصوا لأنفسهم العبث والتقليد ومناقضة المتعارف عليه،ليس من أجل إيمانهم بالحداثة كما يروجون ولكن من أجل هدم القيم والمبادئ،وتحويل المجتمعات إلى قوالب فظة هشة لتحقيق أغراضهم التي لا تخفي على كل صاحب عقل فطن وهي تدمير المجتمعات عن طريق تدمير ثوابته ونشر مبادئهم الهدامة.
إن دراسة جذور وقواعد القبح تؤدي إلى محاولة تجنبه وترقبه ومحاولة إيجاد سبل رادعة لمواجهته،ورغم أن القبح سلوك ليس من اليسير تغييره(مثل الكرم والجود والبخل) فمن إعتاد على القبح سلوكا وممارسة وعقيدة نري أنه من الصعب إعادة توجيه قناعاته الشخصية،ولكن معرفة القبح وتمييزه ومحاولة التغلب عليه تحتاج إلى مجهود جبار وفكر مستنير وتحفيز قوافل الفكر والثقافة،لأنها في النهاية معركة فكرية يفوز فيها الطرف القادر على الإقناع.
لذلك أرى أنه من الأهمية بضرورة أن تتم دراسة بواعث البهجة والسرور التي يحدثها الفن المعماري في النفوس وأن تقوم كافة المؤسسات الثقافية المعنية بهذه القضية بتكثيف جهودها عبر نظم التعليم ووسائل الإعلام ومنصات التواصل لنشر قيم الجمال وأهميتها وأن تمتنع الدول بشكل صريح عن نشر وترويج أفكار معسكر القبح دون تردد وأن تتكامل وتتعاون كافة المؤسسات الدولية لمواجهة خطر القبح الذي إن ترك دون مقاومة سيتحول إلى وحش كاسر يدمر الجميع في طريقه.
قيل قديما إن لم يكن لك مشروعك الخاص بك فسوف تكون جزءا من مشروعات الآخرين،وهذا ما يجعلنا ندعوا وبشدة الي تجييش عناصر الفكر المهتمة بالجمال كقضية أممية والمؤمنة بدور الجمال في إستقرار الشعوب لكي تقدم لنا الحلول الناجزة لمواجهة الفكر والمنهج القبيح الذي أصبح له أتباع كثر في شتي بقاع الأرض.
في مصر-إنعقد مؤتمر المعماريين المصريين عام ١٩٩٤ ونتج عنه عدة توصيات أهمها الدعوة للإهتمام بالتنسيق الحضاري مما أسعد الجميع وقتها.حيث لمست التوصيات المشاعر الإنسانية التي تأثرت كثيرا بالقبح المحيط بها.
ولكن (للأسف) تم حبس التوصيات داخل الأدراج،وتم قتل الأماني بالروتين والبيروقراطية،وتحول قسم التنسيق الحضاري بالمحافظات إلى مجرد مكتب يحظي بموظفين ممن تربوا على الروتين والإجراءات التي تحبط كل عزيمة وتدفع إلى الوراء،بل وتركوا الكتل الخرسانية تحتل الفراغ الفسيح وتطبق علي المساحات الخضراء وتغتال الأراضي الزراعية وتغزو الشواطئ، فتحولت مدننا وقرانا إلى مجرد كتل خرسانية صماء تطفئ كل شغف وولع داخل نفوسنا وبدلا من أن نستمتع بالجمال أصبحنا نلفظه ونستمتع برؤية القبح يحيط بنا في كل مكان.
علق شاعرنا الكبير فاروق جويدة علي هذه القضية فقال:
(انا لا أحب كتل الأسمنت السوداء ولا أتصورها بديلا للأغصان الخضراء التي تحمل عطر الزمن والعمر والتاريخ).
وقال أيضا (إنها معركة الأموال والجهل والتخلف تحت قيادة الفساد القائد الأعلى لكل جيوش الظلمة والرجعية والتراجع الفكري والثقافي) .
في الماضي القريب كان الإحتفاء بالجمال سلوكا نابعا من الإقتناع به وليس مجرد عملية تظاهر مكشوفة وكان المجتمع العربي كله في حالة فريدة لا تتكرر كثيرا من تذوق الجمال والإبداع.
فقد كانت زيارة طه حسين إلى المملكة العربية السعودية بمثابة الحدث التاريخي لأن أهل المملكة كانوا يتذوقون الجمال الأدبي في كتابات العميد وكانوا يقدرون معاني الجمال من حولهم فتحولت زيارة العميد للمملكة إلى تظاهرة لا أقول ثقافية فقط بل تظاهرة للعامة للإحتفال والفرح بزيارة رمز من رموز الفكر التنويري في العالم العربي.
وكان الآلاف من الفارين من جحيم الحرب العالمية الثانية من الأوربيين يلجأون إلى مصر ولبنان وسوريا ودول عربية أخري حيث وجدوا الملاذ الآمن والمجتمع القادر على إستقبال وإحتضان كافة الثقافات والحضارات.
لقد كان الإختلاف منحة وهبة وسببا للتقارب والتواصل وكان الجميع حينها يتبادلون الثقافات أو لنقل يتفاعلون مع بعضهم البعض برشد وواقعية نظرا لتغليب روح الجمال،فالكل كان يرى في الآخر شيئا جميلا،ولذلك عاش الأجانب في بلادنا العربية لسنوات طويلة دون أن يشعروا أنهم غرباء.
وفي نهاية الأمر هي معركة بين فريقين:فريق دعاة الجمال،وفريق آخر هم مروجي القبح والشذوذ.
فريق يتلاعب بالجينات الوراثية للمدن والمباني والتراث وينتج مسوخ مشوهة على شكل أبراج أسمنتية خرساء تصدر إلينا الشعور بالكآبة وتمنع أعيننا من التمتع بالفضاء والأفق الممتد،وفريق يحاول جاهدا المضي قدما في تقديم الجمال بصورة بسيطة تجلب السعادة للنفس وتروح عنها. الحديث بقية